آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

السلالم والثعابين - 9

بُنىَّ: كثيرةٌ الأفاعي وقليلةٌ السلالم في الحياة، وها نحن نلملم شتاتَ أفكارنا في بعضٍ منها، ولعلك عندما تكبر تعتني بهذا الشتات وتضيف لها أفكارك، فهذه الحقبة من التاريخِ هي فترةُ الشتاتِ والضياعِ التي تشتَّتَ فيها الفردُ والمجتمع، بل العالمُ بأكمله، وإذا اخترت لهذه الخطوات عنواناً، فليكن ”شتات الأفكار“.

ناديتك ”يا بُنَىَّ“ مراراً ولم أدعوكَ باسمك الذي أعرفه، لأني رغبتُ أن أظهر لك حبي، ليس في الأفعالِ فقط بل في الأقوالِ أيضاً. عندما تخرج الكلماتُ من بين شفتينا هي إما تجرح أو تداوي. ولا شيء يقتلك مثل أفاعي الكلماتِ التي لا تحتاج منها إلا القليل من السم وتموت، ولا شيء يرفعكَ إلى السماءِ مثل سلالمِ الكلماتِ الرقيقة التي تغذي الروعةَ والجمالَ المتفرد فيك. كلمتين لن تنساهما حتى الموت: الأولى ”أكرهك“ والثانية ”أحبك“.

كلماتُ الرقة نحتاجها منذ أن تستقبلنا القابلةُ ونساءُ الحي بأهازيجِ الفرحِ منتشينَ بخروجنا بجدارةٍ من أرحامِ أمهاتنا، ثم تهدهدنا الأم في المهد في صوتها الرقيق وننام ملءَ جفوننا، وحتى ساعة ما يقلبنا الغاسلُ في نهايةِ الرحلة، فلن نرضى عن الغاسل لو وبخنا وسوف نسمعه في صمت. إنني لو أطلقتُ عليك رصاصاً ربما أخطأتكَ لأن الرامي يعتمد جهةً للرمي ولكن الكلمات تنطلق في موجاتِ الأثيرِ في محيط 360 درجة، فلابد أن يصيبكَ بارودها بالضرر. ثم إنَّ لكل شيءٍ ماسحة، إلا الكلمات التي نرميها نحو الصغار، فهم يحفظونها في طاسةِ رؤوسهم ويقذفونها مرةً أخرى نحو غيرهم، إما رقةً وعذوبةً تنصب على ضفافِ غدرانِ الحب أو سهام تخترق قلوبَ من تصيبهم. ونصيحتي لك أن تتحاشى السهامَ ولا تكن غرضاً لها ولا تقبلها من أحدٍ أن يرميها نحوك.

بُنَىَّ: عندما تكبر سوف ترى الحياةَ أقسى والناس أخشن، فعليك أن تفرق بين الكلماتِ التي تنفخكَ مثل المنطاد، كبيراً وفارغاً من القيمِ يطوف فوق رؤوسِ الناس، وبين الكلماتِ التي تجرحك من الخارج لكنها الترياق الذي يقيكَ أفاعي أفعال نفسك. هناك أشياء تستطيع أن تستردها ولكن ليس ما تفرقَ في الريحِ من كلام، وعندما تكبر قد تأسف على كثيرٍ مما قلت إلا على ما باحَ به قلبك في حالِ العشق والهيام، فهي كلماتٌ تعاند الأيامَ والساعات ولا تمحى.

مُضحكةٌ هي الدنيا، أليس كذلك؟ نضنى ونتعب في تعليمِ أولادنا الكلام في الصغر ويصيبنا الجنونُ إن تأخروا في نطقِ الكلمات، وما إن يتكلموا حتى نطلب منهم الصمتَ أو نرميهم بالحجارة، ولكن نحن الكبار من يسمعهم ما يقولون ونجعلهم صدى كلماتنا السامة أو الروحانية. تذكر أن من واجبِ أبناءك عليك أن تقودهم في دهاليزِ الحياة، أصحاءَ في الجسدِ والنفس، فلا يكفي غذاء الجسم إذا ما شوهتَ أنفسهم وزرعتَ فيهم العاهات التي لن تشفى.

في محور خط الحياة، نقطةُ الصفر في الكلام هي الصمت، وفي السالب يمكنك أن تنفخ تَنانينَ من فمكَ تحرق الدنيا، وفي الموجب تستطيع أن تزرعَ البهجةَ والثقةَ والأمن، وأشجاراً تنمو ثم تكبر مثل السلالم يرتقيها الناسُ ويطلون من أعلى، فإن لم تستطع أن تكون في الموجب، فالصمت أنجى وأسلم. وفي ذاتِ الوقت طالب الناس ألاَّ يرمون الأقذارَ نحوك، وألا يسمعونكَ ما لا يليق برقتكَ وجمالك...

مستشار أعلى هندسة بترول