آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 11:13 ص

حقولٌ وبيادر

كل حياتنا هي فصولٌ مجتمعةٌ من حقولٍ وبيادر. نزرع حقلاً ثم نجمع ما حصدنا، إما يفيض البيدرُ عن حاجاتنا أو تأتي الخيبةُ في النقصان. آباءنا وأمهاتنا هم من زرعوا في حقولِ أجسادنا وأرواحنا، ثم نحنُ زرعنا، والآن نزرعُ في حقولِ أطفالنا، وكأنها دورةُ إنتاجٍ لكنها تنتج أجيالاً وحضاراتٍ تدوسها وتفصل حبها عن سنابلها نوارجُ من البشر.

تعطينا الأيامُ فرصاً كثيرةً لننظر في البيادرِ ونعيد النظر فيما زرعنا، وكيف زرعنا، وما حصدنا، ونحن من يستطيع في قدرةِ الله أن يجعل الحقل يُزهرَ وينمو. نعتني في أجساد أطفالنا يوماً بعد يوم ونأخذهم للطبيب، يضعهم على الميزانِ ويخبرنا أين موقعهم في متوسطِ الأعمارِ من الصحةِ والعافية والنمو. ثم نأخذهمْ للمدارس ونزهو بهم عندما يقرؤونَ ويكتبونَ ويحسبون!

كل أبٍ وأمٍّ، مهما كان يشغلهما في الحياةِ من شغلٍ، فلا يجوز أن ينشغلوا عن الإستثمارِ في زراعةِ حقولِ أبناءهم، وفي مثل شهرِ نيسان من كل عام يأتي الأطفالُ مبتهجين بما جاءت به نتائجهم. هم في هذه الأعمار غير مدركين سوى جانب الفرحِ والمرح من الدراسة، وهكذا يجب أن يحييَ الأطفالُ زمنَ الطفولة. أما الآباء فلابد لهم من نظرةٍ من تحتِ ستارِ أداءِ الطالب والمدرسة. نتاجُ المدارس يشبه المصانعَ إلى حدٍّ كبير فمتى اجتازَ المُنْتِج خطَّ القبول فلن يهتم بما فوقَ هذا الرقم في الجودة، ولعل وعسى أن يكونَ المشتري ذو حظٍّ عظيمٍ لا تعطب معه السلعةُ التي يشتريها.

لا يكلفنا العلمُ كثيراً من المال ولكن من المؤكد أن الجهلَ يقتلنا، وإن كنت مهتماً بأن تنتج فكراً أرقى مما ينتجه المصنع فبإمكانك أن تساعد الصغير ودون كلفةٍ سوى بعضَ الدقائق كل يوم تقرأ معه في كتبٍ بسيطةٍ ورخيصة من خارج المنهج تزخر بها المكاتبُ في اللغةِ العربية والإنجليزية والرياضيات والعلوم. لن يتمرد الصغيرُ على هذهِ الكتب عندما تصفها في مكتبته، يفخر بها ويجمع بين التسليةِ والعلوم دون أن يمل. كل عائلةٍ تستطيع شراءَ كتيباتٍ بسيطة ولو جاعَ الصغار واستغنوا عن توافهِ الطعام، وكل الآباءِ والأمهاتِ لديهم القدرة على العلم والتعليم.

إن كنت في الصفوفِ المتوسطة أو الثانوية أو الجامعة فأنت تقترب من الإعتمادِ على نفسك في تقدير ما جمعت في البيدر من حصاد. هذه الورقة التي تعطيك إياها المدرسة والجامعة هي نتاج سنة كاملةٍ من عمرك، إن فاضت مخازنك بالحبوبِ والثمار فطوبى لك، وإلا عليك أن تعيد النظرَ في كيف زرعت. نحن هكذا حقولٌ وبيادر منذ الطفولة حتى الممات، يعطينا الزمن فرصاً نعاود الكرة وتصحيحَ الأخطاء حتى نهايةَ زقاقِ الحياة وبعدها نحصد كل زرع الحياةِ دفعةً واحدةً ولا فرصةَ للتغيير!

ليس الأبناء مصنوعون من زجاجٍ ثمينٍ ينكسر وعلينا حمايته ومداراته ووضعه فوقَ الرفوفِ خوفاً عليه، بل الأبناء زرعٌ صغيرٌ يتعرضونَ لعواملِ الطبيعةِ ويقوونَ فصلاً بعد فصل حتى يشتدَّ عودهم ويصلب. لن يكرهوننا عندما يكبرون لأننا علمناهم ورعيناهم، لكنهم لن ينصبون من تذكارنَا عَلَمَاً لأننا لم نملأ بيادرَ عقولهم بالعلمِ والمعرفةِ التي تميزهم عن نتاجِ بقيةِ الحقول!

مستشار أعلى هندسة بترول