آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

جغرافية الفكر

بسام المسلمي *

عبر تطب ”الشرق شرق والغرب غرب‏.. ‏ ولن يلتقيا أبداً“. الشاعر الإنجليزي «روديارد كبلنغ 1865 - 1930» المولود بالهند، والحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1907.

مناسبة تصديري لهذه المقولة هي أنني فرغت مؤخراً من قراءة كتاب ”جغرافية الفكر“ أو ”The geography of thought“ للبروفيسور الأمريكي ريتشارد إي نيسبت ”Richard E. Nisbett“

من ترجمة شوقي جلال محمد والصادر عن عالم المعرفة الكويتية في عددها 312 فبراير 2005.

فهذا الكتاب ينقل الكثير من التجارب العلمية التي قام بها المؤلف وبعض زملائه للكشف عن التباين أو التلاقي في طريقة تفكير الشرقيين كالصين واليابان وطريقة تفكير الغربيين كالأوروبيين والأمريكان.

وقد أثبتت تجاربهم بأن هناك فروقاً حقيقية في طريقة التفكير بين الشرقيين والغربيين، وهذا ما يعنيني هنا، وبالتالي في طريقة التعبير والمعيشة أيضاً حتى تجدهما في بعض الأحيان يعيشان في عالميْن مختلفيْن فعلاً. فبينما يصر الغربيون على حرية العمل الفردي مثلاً، فإن الشرقيين يفضلون العمل الجمعي. ص 73.

وإذا كان الجدل والمحاجاة الخطابية شائعة بين الأمريكان، فإن النقاش الساخن لا وجود له في اليابان، وذلك ضماناً لعدم المخاطرة بالتناغم الجماعي. ولعل هذا ما نلاحظه بين الزوج وزوجته الشرقييْن خاصة فيما مضى من الزمن. فهما لا يتجرآن في التورط في الدخول في حوار أو جدال يهدد تناغمهما، هذا إذا سمح الطرف المسيطر الذي عادة يكون الزوج بمثل تلك الحوارات. لكن، يؤكد المؤلف بعد ذلك بأن ”كل مجتمع يضم أفراداً قريبين جداً في الشبه لأفراد في مجتمع آخر مختلف تماماً عنهم أكثر مما يشبهون أبناء مجتمعه“ ص85. فتجد، على سبيل المثال، زوجاً هو أقرب في طريقة تفكيره إلى الغربيين وزوجته تجنح تماماً إلى طريقة تفكير الشرقيين وهما يعيشان في مجتمع شرقي صرف. وهذا ما يسبب كثيراً من المشاكل الأسرية التي تنتج عن انعدام طرق التواصل والتفاهم والانسجام والتوافق في طرق الفهم التي تولدت أساساً من ذلك الاختلاف في طريقة التفكير. ولعل نظرة سريعة في تراثنا الفلسفي والفكري تنبؤك بأن ابن رشد والغزالي وأبو حيان التوحيدي ّوالمعريّ وغيرهم لاينتمون إلى المجتمعات التي عاشوا فيها. وهذا ما يجعل من أمثالهم بما يحمل من أفكار ورؤى لا تمت إلى مجتمعه بصلة يصطدم بمجتمعه ويعاني - على أقل تقدير - من الإقصاء والتهميش الذي يمارسهما ذلك المجتمع ضده.

لذلك، تجد شاعراً كالمتنبيّ يحاول التعالي والتنصل من مجتمعه حينما قال:

وَدَهرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ وَإِن كانَت لَهُم جُثَثٌ ضِخامُ

وَما أَنا مِنهُمُ بِالعَيشِ فيهِم وَلَكِن مَعدِنُ الذَهَبِ الرَغامُ

أو حينما قال:

أَنا في أُمَّةٍ تَدارَكَها اللَه غَريبٌ كَصالِحٍ في ثَمودِ

وقد كان أحد أصدقائي المقربين يتساءل أمامي دائماً عن سبب هوسه وعنايته بالمجتمع وما سيقول عنه ويتهمه به حينما يريد أن يقوم بعمل شيئ ما. وهو بذلك لا يدرك أن هذه طريقة تفكير شرقية تشرَّبها من أسرته وثقافة مجتمعه، وليس من السهولة بمكان التخلص منها، وهذا ما أكده المؤلف في كتابه. ومما يذكره المؤلف كذلك من تباين في التعاطي مع الأمور، هو الفصل في قضايا النزاع. ففي الحين الذي آثر الأمريكان اللجوء إلى القضاء، فإن الشرقيين فضلوا اللجوء إلى طرف ثالث متفق عليه بين طرفي الخصومة كي يقوم بالتحقيق في الخصومة والوصول إلى حكم مقبول من الطرفين. ومن هنا تبرز مكانة المحامين ويزداد الطلب عليهم في أمريكا والدول الغربية بخلاف الدول الشرقية. وهذه الطريقة، تدخل أطراف أخرى لحل النزاع، ربما هو ما أشار إليها القرآن حينما قال «وإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا» النساء 35. ولعله من المفيد جداً أن يقوم بعض الباحثين المشتغلين بالدراسات القرانية برصد ثم بدراسة وتحليل مثل هذه الظواهر في القرآن ثم الخروج من ذلك بنتائج تظهر مكان ورأي الأسلام حيال النظرتين الغربية والشرقية.

ومن مظاهر الاختلاف التي يرصدها المؤلف أيضاً، هو أن الغربيين يرون أن للعالم والكون قوانين تحكمه متى ما أدركها الإنسان، فإنه يستطيع التحكُّم في هذا الكون بنسبة كبيرة. وعلى النقيض من ذلك، فإن الشرقيين يرون أن العالم معقَّد جداً وليس من السهولة أن يحيط أحد بقوانينه المتداخلة وعوامله المترابطة التي تحكمه. وهذا ما يجعل الغربيين يعزلون الأمور عن سياقاتها. فمثلاً، في الطب الغربي، نجد أن الأطباء يحصرون العلاج في الجزء المعتل فقط، بينما الشرقيون يعالجون أكثر من جزء كي يصلحون جزءاً معتلاً بعينه وذلك لترابط الأعضاء ترابطاً محكماً لا فكاك منه كما يعتقدون، وهذا يتجلى في طريقة العلاج بالإبر الصينية لدى الشرقيين مثلاً.

ثم وفي الخاتمة، يتساءل المؤلف ”هل هو التغريب؟“ وهل أن الشرق سيلتقي بالغرب يوماً ما؟ بعد ذلك يذكر رأي فوكوياما عن ”نهاية التاريخ“ وعن تلاقي الشرقيين بالغربيين في الغرب. فالرأسمالية والديمقراطية الغربية فازتا، والعالم الشرقي في طريقه إلى الغرب، فالناس في كل بلدان العالم يرتدون الجينز وال تي شرت ويشربون الكوكاكولا ويستمعون إلى الموسيقى الأمريكية ويشاهدون الأفلام الأمريكية. فالأمر محسوم والمسألة هي مسألة وقت فقط ليكون العالم كله غربياً أو متغرباً. وفي الإتجاه المقابل فإن هنتنجون يرى أن العالم الشرقي في تباعد مع العالم الغربي وليس من سبيل للتلاقي. وكما تشير الإحصائيات فإن النفوذ الغربي أخذ في الانخفاض مؤخراً بسبب التقدم الاقتصادي في الشرق الأقصى والزيادة السكانية للمسلمين. وقد لحظ هنتنجتون أن ثمة دول شرقية كسنغافورة وتايوان أصبحت حديثة دون أن تصبح غربية.

ولكي لا أفقدكم رغبة قراءة هذا الكتاب، أكتفي بهذا القدر من الحديث، على أمل أن ألتقي بكم في الحديث عن كتاب آخر.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
باقر الشيخ علي
[ الاحساء ]: 14 / 5 / 2019م - 3:34 م
وجهة نظري القاصرة ليس الاصح من يفرض اسلوبه بل الاقوى ربما لوكانت الغلبة للعرب لرأيت الاوربي يرتدي الغترة
وكذلك تجدها في اي شخص يملك قوة او شهرة تجد له مقلدين