آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:08 ص

سَفَر إبراهيم

ليس اكتشافاً للبارود أن أكتبَ لك أننا، أنا وأنتَ، متشابهان. كلانا إنسانٌ في كلِّ التفاصيل، ولكن هو إقرارٌ بأننا براكينٌ من العواطفِ تجمع قوَّتها من تحتِ أعماقِ أرضِ أرواحنا وتقذف بها خارجها عندما ينبشها القَدرُ في حدثٍ يؤلمنا، أو يلهمنا، أو يفرحنا. اليوم ثارت حِمَمُ براكينِ ذاكرتي التي كبرت مع الأيامِ ولم تهرم وتقادمت ولم تمت.

كان في صغري خمسةٌ أحبهم ويحبوني. خالٌ، وخالتين، وعمٌّ وعمة، وأنا أعرف أن عندك مثلهم، تحبهم ويحبونك. كنتُ صغيراً أرى في خالي رجلاً قوياً يقطع الصخرَ من أجلِ أن يعيش، أبيض طويل القامة خشن اليدين طريَّ القلب. كان يومَ عيدي عندما ألعب في الزقاق ويمر خالي ”جابر“ ماشياً إلى بيته. الله، كم كنت أجري نحوهُ لأحضنهُ، ثم عندما أعود للبيتِ أقول لهم: هل تصدقوا أني رأيتُ خالي؟ وعندما يزورنا يعلمني كيف كيٌ وطي الثوب، لل?ن أتذكر تلك اللحظات التي سكنت في قاعِ طاسةِ رأسي.

خالتي الكبرى ”مريم“ أرق من نسائمِ الربيع في وداعتهَا، وأبيض من الثلجِ في لونها. كانت تخبئ لي بيضَ دجاجاتٍ تربيها وتجمعها، آخذها في زيارتي لبيتها الصغير وهي تلتفعُ بردائها الذي يعاكس بياضها تلملم مكان جلستها. خالتي الصغرى كَبُرتْ وكبرتُ معها قليلاً. كان سو?لي لها على الدوام: أخبريني كيف كنتِ وأمي وخالتي في صغركم؟ تبتسم خالتي ”تاجة“ وتقول: ”مثل كل الناس“. الله! كم دافعتُ الدمعَ عندما ماتت.

كان عمي ”مكي“ وأبي من بقي من عدةِ إخوةٍ رجال أماتهم المرضُ صغاراً، وبيت عمي قريبٌ من بيتنا. كان أسمر اللون أخذ منه القدر بصره يتهادى على عصاً، يطرق الباب في اشتياقٍ ليرى أخاه الصغير ”والدي“. أفتح له بابنا الخشبي ثم يدلف منحدراً داخل المنزل في خطاً قصيرةٍ وثقيلة. كان عمي جار خالتي ”مريم“ وعندما أزوره يحضر الشاي الممتلئ بالسكر.

أجمل الرحلاتِ كانت رحلتي وإخوتي لبيتِ عمتي ”آمنة“. مسافةٌ تأخذ مني الآنَ دقائق، ولكنها كانت تبدو وكأنها مسافةَ متعةٍ ولهفةٍ كما المسافة بين الأرضِ والسماء. يرن في أذني صوتُ عمتي الأجش تسأل: ”كيف أبوك؟“ فأجيبها: بخير. وتطلب منه الحذر من غدرِ البحر الذي سلبها زوجها ”سلمان“ في نضارةِ الشباب. كان في بيت عمتي الأبناء والأحفاد وكان ”إبراهيم“ حفيدها في عمري تقريباً. كبر إبراهيم وكبرتُ وسبح كلانا في نهرٍ من أنهارِ الدنيا، نلتقي لماماً في يومِ العيد وفي الحزن. عدنا نلتقي أكثر عندما ترك العمل وكلما رأيته كان يسأل: ”كيفك ابن الخال؟“ واجيبه: ”بخير يا ابن العمة“. مرضَ إبراهيم مدةً وعَبَر من الوهمِ إلى الحقيقةِ قبل يومين.

فإليك أيها الصغير الذي نبشَ الذكرى، إليك كل التحايا يا إبراهيم. هلا أبلغتَ السلامَ لعمتيَ التي أحببتُها وقلتَ لها أني ذكرتُها وكتبتُ عنها؟ يا إبراهيم تكفيك مني كلماتٌ قليلة فقد قالَ فيكَ الناسُ الكثير: أنت أحببتَ الناس فأحبكَ الله. طوبى لك فما زرعت في سِنِيِّ حياتك من سنابلِ الخير حان حصاده وفاضت به المخازن...

ترقد الذكرياتُ في أحضانِ ذاكرتنا ولا يجعدهَا النومُ،  وتستيقظ على نداءِ الآلامِ والأفراح. يتساوى في مصائد القَدر، الذي يوقظها، كلُّ البشر، من ملكَ شيئاً ومن لم يملك. إن كنتَ صغيراً سوف ترى وإن كنت كبيراً فقد رأيت...

مستشار أعلى هندسة بترول