آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:06 ص

تأثيرنا على أنتاركتيكا.. حقيقة أم خيال؟

محمد محفوظ *

لطالما كانت أنتاركتيكا أو القارة المتجمدة الجنوبية لغزاً محيراً لكثيرين على اعتبار أنها من الأراضي التي يصعب الوصول إليها، عملياً لا يسكن هذه القطعة من سطح الأرض بشر ولم يكتشف العلماء سكان أصليين سبق وأن قطنوا هذه البقعة من سطح الكرة الأرضية، وليس من المستغرب ألا يكون الإنسان القديم قد أظهر شغفاً باستكشاف هذه البقعة المتجمدة من الكوكب فظروف الحياة فوق جليدها قاسية للغاية وهو ما قد يتجاوز طاقة الإنسان وقدرته على التحمل، حتى اليوم وبعد كل الإعجازات العلمية والتقدم التقني الصارخ لا يزال الإنسان المعاصر ينفر من فكرة زيارة تلك البقعة، فإن لم تكن عالماً يعكف على إجراء أبحاث أكاديمية لحل ألغاز القارة وربطها بتأثير التغيرات المناخية على مستوى مياه المحيطات فلا أعتقد بأنك ستقضي وقتاً ممتعاً هناك، إلا إن كنت قد سئمت مجاورة بني البشر وقررت أن تذهب إلى مكان لن ترى أو تصادق أو تتحدث فيه إلى أحد على الإطلاق!

بشكل عام لا يقطن هذه القارة إلا فئة قليلة لا تتعدى بضع مئات من الباحثين والتلامذة والأخصائيين القادرين على إجراء أنواع مختلفة من الإختبارات للكشف عن معلومات قيمة قد تفيدنا بيوم من الأيام، هؤلاء تركوا نِعمة الدفئ ورحلوا صوب صقيع لا يطاق لتحقيق مئاربهم، وليحققوا ذلك هُيئت لهم مراكز خاصة للبحث العلمي بأماكن مختلفة من القارة المتجمدة، لن ينعموا بأسلوب حياة مقارب لك وأنت تقرأ هذه الكلمات ولكن هذه المراكز على الأقل ستقيهم من التجمد حتى الموت.

قد تبدو القارة المتجمدة الجنوبية أرض غير مهمة بالنسبة للكثيرين ولكنها لطالما أثرت بشكل أو بآخر على باقي القارات المجاورة لها على الخريطة، ولنتعمق أكثر بتأثير هذا الجليد على حياتنا علينا أولاً أن نمحي الصورة التقليدية لأنتاركتيكا بأدمغتنا، أرض هذه القارة لا تشبه الأرض التي نعيش عليها! ف بالوقت الذي نستمتع أنا وأنت بقيادة مركباتنا على الطرقات وزراعة ما طاب لنا بإستخدام التربة وبالوقت الذي نجاور به الحيوانات والنباتات يقضي الباحثون أوقاتهم على أنتاركتيكا محاطين بصفائح بيضاء جليدية لا نهاية لها، هذه الصفائح تكونت على مدار مئات الآلاف من السنين متأثرة بتساقط الجليد على تلك المنطقة من الكوكب إلى أن وصل متوسط سُمك تراكم هذه الصفائح إلى 1,6 كيلو متر إلى الأسفل، هل يمكنك تخيل ذلك؟

نسبة إلى دراسة نشرتها وكالة ناسا للفضاء فإن كتلة الصفائح الجليدية بالقارة تغيرت بشكل ملحوظ ما بين عامي 2002 و2016، يؤكد الباحثون القائمون على الدراسة أنه بعد عمليات المراقبة بإستخدام الأقمار الصناعية تأكد خسارة القارة لما يقارب 125 غيغا طن من الثلوج بالعام الواحد وهو ما يتسبب بارتفاع منسوب مياه المحيطات بواقع 0,35 مليمتر بنفس الفترة، دراسات أكثر حداثة قدرت الأرقام بأكثر من 200 غيغا طن بالعام الواحد، طبعاً عند هذه النقطة لعلك تساءلت وما هو الغيغا طن؟ ببساطة الغيغا طن يساوي مليار طن متري Metric Ton، ولتوضيح الصورة بشكل أبسط فإن القارة المتجمدة تخسر كل 10 دقائق نفس كمية المياه التي يستخدمها سكان مدينة لندن كل يوم، أي أن ما تخسره أنتاركتيكا خلال 10 دقائق فقط يكفي تغطية احتياج ما يتجاوز 8 مليون إنسان من الإستخدام اليومي للمياه، أرقام مذهله أليس كذلك؟ ولكن مالذي يتسبب بهذا الذوبان؟

ما نعرفه أن هنالك سببان رئيسيان لذوبان الجليد بالقطب المتجمد الجنوبي، أولهما أن الجو الدافئ ينتج عن دفئ المحيطات وهو ما يتسبب بانتشار الماء الدافئ وتحركه نحو الأعلى ليقترب من السطح وبالتالي يسرع من وتيرة ذوبان الجليد من الأسفل، السبب الثاني يتعلق بسخونة الجو التي تتسبب بذوبان الجليد وبالتالي تساقط قطع الجليد الكبيرة بمياه المحيط وهو ما يتسبب بالضرورة بارتفاع منسوب المياه حسب حجم وكتلة الجليد، هذه الحقائق لا يمكن لأحد ضحدها لأنها تعتمد اعتمادًا كلياً على أرقام واضحة لكن التساؤل الأكبر والأهم يتمثل بدور الإنسان بذوبان الجليد، هل يمكننا اعتبار الاحتباس الحراري سبباً رئيسياً لهذا الذوبان أم أنه جزء من دائرة الحياة على كوكب الأرض؟

الحقيقة أن العلماء لا يمتلكون إجابة واضحة حول هذه المشكلة فالدراسات تؤكد وتضحد بذات الوقت الحجم الحقيقي لتأثير الإنسان، آخر دراسة قدمتها الأمم المتحدة توقعت ارتفاع منسوب المياة بمقدار قدم واحد هذا القرن إذا ما استمر الإنسان بحرق البترول والغار والفحم بذات الوتيرة، وهو رقم لا يُعتبر بالمرعب بتاتاً بل على العكس، هذا التقرير تم التشكيك به من قبل مجموعة كبيرة من المهتمين بقضية الاحتباس الحراري متوقعين ارتفاع المياة بالمحيطات بشكل أسرع وبمنسوب أكبر، لكن لنكون صادقين مع أنفسنا لا يمكننا الاعتماد على كل دراسة تدعي صحة موقفها من هذه الناحية فالعلم غير قادر على تقديم براهين ثابتة لا يمكن ضحدها من هذا الجانب وخصوصاً إذا ما عدنا لناحية عادة ما تتجاهلها تلك الدراسات وهنا بالطبع نتحدث عن تاريخ كوكب الأرض، التاريخ يخبرنا بأن أنتاركتيكا خسرت بالفعل كمية ضخمة من الجليد لمرات عدة قبل إكتشاف الإنسان للبترول والغاز والفحم وقبل طفرته التقنية، قبل حوالي 120 ألف سنة عندما كان المناخ أكثر دفئاً بمقدار حوالي درجتين مئويتين كان منسوب مياه المحيطات يزيد بمقدار 6 أمتار تقريباً عن ما هو عليه اليوم، عندها لم يكن هنالك احتباس حراري تسبب به البشر؟ لكن دائرة الحياة استمرت ليعود المناخ تدريجياً إلى الخلف نحو مناخ أكثر برودة وهو ما يعني ذوبان أقل للجليد ومنسوب مياه أقل إرتفاعاً.

لقراءة تاريخ طبقات الجليد يستخدم العلماء جهازاً خاصاً على طريقة حفارات الآبار النفطية، يقوم هذا الجهاز بالحفر تجاه الصفائح الجليدية التي تكونت على مدار مئات الآلاف من السنين، يعمد العلماء بعدها لاستخراج قطع الجليد وإخضاعها لاختبارات خاصة لقياس عمرها الإفتراضي، ومن هنا على سبيل المثال يمكننا قياس مدى تأثير المناخ على هذه القطع الجليدية على مدار مئات الآلاف من السنين ما يساعدنا على تأكيد أو ضحد فكرة تسبب الإنسان بذوبان أجزاء من القارة القطبية الجنوبية وتأثيره على مستقبل سطح الكرة الأرضية، أي نعم التغير المناخي حقيقة لابد والاعتراف بها، أي نعم الاحتباس الحراري حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها، ولكن طبع الأمر بالسوداوية واتهام الإنسان بكل تفاصيل المشكلة والمبالغة بالتوقعات وتضخيم الأرقام لم ولن يخدم القائمين والمنتمين للبرامج الدولية المعنية للتصدي والوقاية من تلك الأخطار التي قد نواجهها أو يواجهها أبناؤنا أو أبناؤهم من بعدهم، أي دراسة تعتمد على مدى عمري قصير أو تتجنب الخوض بتاريخ المناخ على كوكب الأرض يجب أن تواجه بالكثير من التشكيك والكثير من الأسئلة، طرح الأسئلة أمام مثل هذه الدراسات هو أقوى سلاح نمتلكه على الإطلاق، فتصديق هذه الدراسات وكأنها شأن مسلم به لن يوصلنا إلا لطريق مسدود، فلو سلمنا بروايات المؤمنين بدور الإنسان السوداوي وتسببه بكوارث طبيعية لن يتمكن البشر من ايقافها أو النجاة منها وهي وجهات نظر شخصيات معروفة لا تزال تجاهر بذلك منذ ما يضاهي العشرين عاماً لكان العالم اليوم أكثر رعباً وأكثر دماراً مما هو عليه اليوم!

المنطق جميل، والتريث مع مثل هذه الدراسات مطلب أساسي، نعم سيرتفع منسوب مياه المحيطات مع نهاية القرن كما حدث قبلها بمئات السنين، وكلا لن تكون تلك نهاية العالم كما يريد البعض أن يصورها! هنالك بالتأكيد مشاكل أكبر وأكثر تأثيراً على البشرية وكوكب الأرض من ذوبان صفائح الجليد، ربما لا تجذب تلك المشاكل انتباه منتجي هوليوود كما تفعل أنتاركتيكا، لكنها ليست أقل أهمية على الإطلاق، فدعونا نرتب من أولوياتنا ونتأمل..

متخصص بالإدارة و التسويق و التجارة الإلكترونية، أرى هذا العالم بمنظور خاص قد يكون مختلف بشكل نسبي عمّن حولي، لي إهتمامات كثيرة من بينها علاقات الدول السياسية الإقتصادية، التغيرات المناخية و تأثيرها على الإقتصاد العالمي و التوعية البيئية.