آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

شفتانِ مختومتان

ربما كان في شتاءِ عام 1983م، جلستُ مع صديقي في الصفِّ الأول من فصولِ أحد المواد التي كان يدرسها بروفيسور كبير في العمر ”براندنبرق“، الذي أعطى للطلابِ تلك المادة سنينَ طويلة. بدأ يشرح الدرسَ ويعطي أمثلةً حسابية، لكنه سرعان ما ارتبك إذ وصل إلى مسألةٍ ولم يعرف أن يحلها. نظر إلى الطلابِ بهدوء وقال: لقد شرحتُ هذه المسألة عشراتِ المرات ولكن اليوم تاه فكري بسبب كلام طالبين يثرثران في الصفِّ الأمامي وكان يقصدنا. شكرنا له عدم احراجنا، سادَ الصمتُ وأجاب البروفيسور عن المسألةِ دون جهد.

هل من يشك أننا نتاج بيئتنا؟ ترتاحُ أمزجتنا في اعتدالها وتلتهب في حرارتها. وها نحن في يومٍ من أيامِ شهر حزيران يذكرنا بلهيب يوم القيامة. عشتُ في مثلِ هذه الأجواء ستينَ سنةً وفي كل يومٍ أسألُ نفسي كيف عاشَ أجدادي؟ وكيف استطاعوا مقاومةَ ضنك الحياة وقساوة البيئة وعملوا؟ وكيف عندما سهلت الحياةُ وخف تعبها، تركوا خلفهم جيلاً قلت رغبتهُ في العملِ وتحولت شهيتهُ نحو الكلامِ فيما يعاكس حقائقَ الحياة!

خطيئة كل البشر، أينما كانوا دون استثناء، أنهم يثرثرون ويتكلمون بينما هم معدون لعكس ذلك. عينان للنظر وأذنان للسمع ولسانٌ واحدٌ للنطق! هل في ذلك دلالةٌ على أن خزن الفكر وصونه أوجب من إفراغه وإظهاره للناس؟ ربما هو كذلك، إذ أن تعري المنطق وإنكشاف الفكر النيئ قد لا يغتفر. بينما تعري الجسد لن يَأخذ صاحبه للمقابر أو العداوات، وإن زاد حنقُ الناسِ على من تعرى ستروا عورته وقالوا: كيف صار مجنوناً وأودعوه المصحةَ أو المارستان. يحكى أنه حُكم على ثلاثة أشخاصٍ بالإعدام بالمقصلة. سألوا الأول إن كانت لديه كلمة يود أن يقولها قبل الإعدام، فقال الله هو من سينقذني، وعندمَا أنزلوا المقصلةَ لإعدامه وصلت إلى رأسه وتوقفت، تعجب الناسُ وهتفوا جميعاً: أطلقوا سراحه وبذلك نجا من الموت. وُضع رأسُ الثاني تحت المقصلة وسألوه أيضاً إن كان عنده ما يقول قبل الاعدام، فقال: أنا لا أعرف اللهَ ولكن العدالة سوف ستنقذني. نزلت المقصلةُ حتى وصلت إلى رأسه وتوقفت، فتعجب الناسُ وهتفوا: أطلقوا سراحه وهكذا نجا أيضاً. وأخيراً سألوا الثالثَ إن كان لديه كلمة يرغب أن يقولها، فقال: لا أعرف اللهَ ولا أعرف العدالة، ولكنني أعرف أن هناكَ عقدةً في حبل المقصلة تمنعها من النزول. نظروا إلى المقصلة ووجدوا العقدة فأصلحوهَا وانزلوا المقصلةَ على رأسه ومات.

لم يعطنا الله لساناً نخزنه ونطلقه في البراري والطبيعة فقط حتى يرتد لنا صدى أصواتنا، ولكنه لاستنطاق فكر الآخرين والاستزادة منه وعندما لا يستطيع اللسان إغراءَ الفكر الناضج أن يظهر فالصمت أولى، وإذا كان كل الشعوب تعمل وتتكلم، فهي تبقى نسبية، ومن الأجدى ألا نعشق الكلام ونقع في غرامه أكثرَ من العمل. مئات المحطات في العالم تملأ الفضاء بالكلام والضجيج، وأنت تسمعها تسأل ماذا تقول وماذا تفيد؟ هل جرب البشرُ أن يصمتوا يوماً، يريحون ويرتاحون. هل يصمت الإنسانُ ويدع الكلامَ للطبيعة التي يعتقد أنها خرساء، صماء لا تتكلم؟

مستشار أعلى هندسة بترول