آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 5:35 م

يا خير الغافرين

المغفرة خلق إنساني رفيع ينبيء عن نفسية عالية تترفع عن الحنق والتشفي وحب الانتقام، ترنو دائما نحو العطاء ولا تلتفت إلى أوحال الكراهية والحقد وردات الفعل العنيفة، فإن من يرفض مد يد الصفح هو إنسان ضعيف ومأزوم نفسيا لا يتحمل قلبه الأسود أن يتجلبب بالصفاء والنقاء.

المؤمنون أصحاب قلوب سليمة يحافظون عليها من التلوث بالأحقاد، فلا يسمحون لأهوائهم أن تنبثق منها ردود الفعل المتهورة التي تسقطهم من عين خير الغافرين وأوليائه المجسدين لجمال صفاته، فما عساها الكراهية أن تجلب لهم غير الشقاء وسلب الراحة والطمأنينة والاضطراب الاجتماعي.

والمغفرة كما جاء في معاجم اللغة تشير إلى هذه المعاني، وهي: الستر وترك التشهير والفضيحة لمن أساء لك، وترك التعنيف والمؤاخذة على سوء فعله، ونسيان هذا المعروف والإحسان وعدم تعييره والمن به عليه في أي موقف مستقبلي، وفتح صفحة بيضاء في العلاقة معه وكأن شيئا لم يحدث.

فأما الستر فإنه الجناح الآخر للصفح، فقد يتجاوز الكريم من البشر عن إساءتك ولكنه يبقى محدثا ومتناولا لها في كل محطة زمنية مستقبلية حتى يسمع بها أكثر الناس، وأما خير الغافرين عز وجل فإنه يرخي الستر عليك لئلا تسقط من أعين الناس، بل وحتى في يوم القيامة وبروز الخافية والسرائر يسترها سبحانه ويخفيها حتى عن ملائكته الكرام، فأين نحن من هذا الخلق الرفيع الذي يشير إلى النفوس الكريمة، أم أضحينا عشاق الفضائح وتتبع العثرات ومدمني مجالس الغيبة والفتن وهتك الأستار؟!

وترك المؤاخذة والعتاب الشديد فهو من مقومات المغفرة الخيرة والصفح الجميل، فإن تفريغ المشاعر السلبية وصب جام الغضب وقذف كرات اللهب العاطفي الناري يشكل هجوما ضاريا لا يقل في عنفه ونتائجه الخطيرة عن أي هجوم آخر، ولكن الكريم من البشر يمسك بزمام جوارحه ويطرد نفث الروح الشريرة منه ويبقى ثابتا على قيمه من تجنب إهانة أي أحد أو تعنيفه مهما كان، فكيف بخير الغافرين الذي يكتفي من عبده باستدارة عن طريق المعصية وندما وعزما على التغيير وتقوية جبهة الممانعة النفسية عنده؟!

وتجنب التعيير والمن عليه بالصفح مستقبلا هي من شيم الكرام الذين يترفعون عن كل وسائل الأذية مهما تصاغرت، فالمؤمن يمتلك رقة في مشاعره يتحنن بها على الجميع حتى من أساء إليه لعله ينتزع بذلك جذور الشر من نفسه.

وخير الغافرين يدعونا لحب هذا الخلق الرفيع بعيدا عن ثناء المادحين أو استجلاب الأضواء على حسن فعله، ومهما تسامت النفوس في فضاء التسامح والصفح فلن تبلغ شيئا في سعة المغفرة الإلهية، والتي تسع ذنوبنا مهما تكاثرت وتطاولت بها السنين، وإن انتابتنا يقظة آنية ثم انكببنا على أوجهنا في وحل الخطيئة فما زال أمل الصفح مدودا لا ينقطع، فأنى لليأس أن يدب في قلوب وسعها الأمل بالمغفرة الإلهية!!

فهل نستحضر هذه المعاني حينما نناجي الخالق ونستمد منه جمال هذه النفحات واستعدادانا وامتلاكنا للقابليات التي تقبل هذا العطاء، فخاطبه، وقل: يا رب، ليس لي من عمل يقربني منك يتصف بالإخلاص التام والحضور الذهني لعظمتك والخشية منك، ولكن جعلت لي وسيلة بعد محمد ﷺ وأهل بيته الطاهرين ألا وهي روح الصفح والتسامح مع من أساء لي بأدنى درجاتها، وجعلت عفوي عن سوء فعلهم أو منطقهم نحوي من جهتك يا رب، فاجعله ذخرا لي في ذاك اليوم العصيب الذي أستجير فيه من أليم عذابك واستحقاقي للعقوبة، فعفوي عن أحد من عبادك يا خير الغافرين التماس أخروي لتشملني بمغفرتك الواسعة التي تشمل العصاة والمقصرين مثلي، ممن لا ينهض بهم عمل يقربهم نحو ساحة قدسك.