آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

ليالي منى والخيف

المهندس هلال حسن الوحيد *

تعودُ بي السنين في أواخرِ شهر ذي القعدة إلى ليالي منى والخيف وكأني أنظر والدي يتأهب لرحلته الفريدة في المشقة والمتعة إلى الديار التي فيها نادى النبي إبراهيم في الناس ”هلموا الحج“ فجاءوا من كل بقاعِ العالمِ صغاراً وكباراً، ذكراناً وإناثا، أغنياء وفقراء، يتعرون من كل زينتهم حيث لا تعرف من هذا ومن أين أتى وكم يملك! ارتقى والدي سورَ المنزل من ناحية الشرق ورفع صوته بالأذان. كنتُ أقف خمسةَ أمتار دونه ولكن صوته كان عذباً رقراقاً وحزيناً، تقاسم مشاعري شيءٌ من الهيبةِ والخوف ألا يعود وشيء من انتظارِ هديةِ الصغار التي تأتي مع الحاج.

تغير الكثيرُ في وسائلِ الحج من اليسر والعسر في أداء المناسك ولكن بقي الحجُّ هو الجامع والقاسم المشترك الأكبر بين المسلمين. حدثٌ يجمع ملايينَ من البشر من ملةٍ واحدةٍ عند نقطةٍ واحدةٍ يطوفونَ حولها وفي أمكنةٍ واحدةٍ  يقصدونها، يجمعهم الإيمانُ بمسلَّماتِ الإسلام والرغبة في تلبية نداء إبراهيم وإتمام الحج. الأمة التي يجتمع فيها كلُّ هذا العدد الذي يمثلهم في طوائفهم وبلدانهم وكل توجهاتهم هي أمةٌ لابد لها أن تكون أمةً رائدةً تفيض بالعزيمةِ والإيمان.

أيامٌ يقضيها الحاج تتحول فيها مكةُ ومنى إلى صفحةٍ وصحيفةٍ بيضاء تأسر العالمَ في جمالها. صفحةٌ مخطوطةٌ بلباسٍ واحد ومقصدٍ واحد، وصحيفةٌ بيضاء خالية من الذنوبِ لكلِّ من حضر في ضيافة من دعاه وهو ”الله“. تحت لهيبِ أشعة شمس الحجاز، الدافئة على مدار الفصول، يتعب الحاجُّ وتأتيه لحظاتٌ يأخذ منه التعب نصيباً كبيراً ويظن أنه لن يعود، ولكن ما إن تأتي آخر ساعةٍ من يومِ الثاني عشر من ذي الحجة يتوجه كلُّ الحجاج يسألون ربهم: رباهُ متى أعود مرةً أخرى ولو متُّ في هذا المكان وفي هذه الرحلة؟

ديدنُ السماء أن تخلقَ جوامعَ ومشتركات لكل مريديها وتابعيها في كل الديانات، ولكن أكاد أجزم أن ليسَ هناك من دينٍ أكثر من الإسلام فيه مشتركاتٌ بين مريديه على مدار اليوم والساعة، بل على مدار الأزمان، والحج هو من أهم تجليات هذه القواسم والمشتركات. إن كنت ممن يحضرون هذا الموسم هنيئاً لك، سوف ترى المعجزة الخالدة وهي أنَّ رجلاً وقف ودعا الناس للحجِّ قبل قرون ولا تزال دعوته تتردد في أصلابِ الرجالِ وأرحام الأمهات. سوف ترى بشراً لا تفهم لغتهم ولا تعرف سحنتهم لكنك بكل تأكيد تعرف وجهتهم ومقصدهم الذي تشترك فيه معهم وهو مكةَ ومنى وما حولها من الأرضِ المباركة التي طالما وطأها الأنبياء والمؤمنون، ولطالما حيتها وسقتها شآبيب الغمام.

مستشار أعلى هندسة بترول