آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 5:36 م

التوافق.. الذوبان

محمد أحمد التاروتي *

الانسجام التام في المواقف ليس مدعاة للذوبان، والاضمحلال الكامل، اذ تبقى الاّراء الخاصة حقا مشروعا، للتعبير عن الذات في مختلف القضايا، فالبعض يرى في انتهاج الاّراء الخاصة، خروجا عن الجماعة، ونوعا من الرفض لرأي الأغلبية، مما يدفعه لاتخاذ الموقف السلبي عطفا على الاّراء المخالفة في بعض القضايا، خصوصا وان عملية التفهم للاحتفاظ باستقلالية المواقف، غير واضحة بالنسبة للبعض، اذ يطالب بالذوبان الكامل والانصهار التام، والابتعاد عن الإفصاح عن الاّراء المغايرة او المتحفظة، فيما يتعلق بمعالجة القضايا على اختلافها.

استقلالية القرار لا تمثل خروجا عن الإجماع الداخلي، بقدر ما تسهم في اثراء المعالجات، ومحاولة الإطاحة بالقضايا من زوايا مختلفة، عوضا من الرؤية الواحدة التي تعالج الأمور بمنظور موحد، مما يعرقل الجهود المبذولة لتناولها بطريقة عملية، خصوصا وان اتاحة المجال امام تعدد الاّراء، يحدث فرقا كبيرا في التعاطي المسؤول، مما يعزز روح المسؤولية عوضا من الحالة الاتكالية القائمة على الرؤية الموحدة، الامر الذي يعطل التفكير السليم تجاه القضايا العالقة.

التوافق امر مطلوب لسد الطريق امام الخلافات، ويقطع الطريق امام الخصومة، لاسيما وان تقريب وجهات النظر يسهم في إرساء دعائم الوئام، وإشاعة التلاحم، مما يمثل خطوة أساسية في التحرك الجماعي تجاه القضايا الاجتماعية، بحيث تنعكس بصورة مباشرة على حالة التآلف، والانسجام التام، خصوصا وان التشاحن والتنازع يعرقل الجهود الموحدة، لإرساء الحلول السريعة، وبالتالي فان التوافق خطوة رئيسية باتجاه المعالجات الجذرية، فيما الخصومة تفتح أبواب الشيطان لاستمرار الصراع، وإبقاء المشاكل بدون معالجة عملية.

الذوبان يفقد المرء الاستقلالية، ويجعله أداة سهلة لدى الغير، نظرا لافتقاره للقدرة على ابداء الرأي، نتيجة سلبه احد الحقوق المشروعة، لاسيما وان البعض يحاول فرض السيطرة على الاخر، من خلال استخدام بعض الشعارات الخادعة، مثل ”يد الله مع الجماعة“ و”الشاردة للذئب“، وغيرها من الشعارات الهادفة لممارسة المزيد من الهيمنة، والقضاء على الاستقلالية لدى الطرف المقابل، بحيث تبرز على شكل مواقف متشددة، وغير مبررة تجاه الاّراء غير المتوافقة مع الرأي المطلوب، الامر الذي يدفع لإطلاق حملات إعلامية لتشويه أصحاب الاّراء المستقلة، من اجل إسكاتها بالدرجة الأولى، وقطع الطريق امام تنامي هذه الظاهرة، نظرا لما تمثله من خطورة على سياسة الهيمنة، والسيطرة المفروضة، من لدن بعض الأطراف الفاعلة في المجتمع.

الموقف السلبي تجاه الاّراء المستقلة، ليس مبررا على الاطلاق، خصوصا وان خروج هذه الاّراء دلالة على وجود حيوية في المجتمع، جراء انتهاج الاليات المتاحة لمعالجة جميع القضايا الاجتماعية، فالرأي الوحيد يعطي دلالة على اختفاء مساحة حرية الرأي، وسيطرة الصوت الواحد على جميع الأصوات المخالفة، مما يجعل الأمور اكثر تعقيدا، واشد صعوبة في بروز الكفاءات، والطاقات، جراء عمليات القمع الممارسة تجاه الاّراء الأخرى، فالاختلاف في وجهات النظر لا يمثل استقلالية كاملة، او القطيعة مع رأي الجماعة، بقدر ما يهدف الى احداث توازن في المعالجات، وبالتالي فان العملية مرتبطة بالقدرة على المعالجة الناجحة، وليست مرهونة بالصوت المرتفع، من خلال استخدام التوافق شماعة، لاسكات الأصوات الأخرى.

التوافق لا يعني الذوبان على الاطلاق، فالآراء الخاصة محترمة في جميع الظروف، ولا يمتلك الاخر سلطة شطب الاخرين، بمبررات الخروج عن التوافق، واتباع سياسة تخريب الجماعة، فهناك فرق شاسع بين التوافق والذوبان، فالتوافق يمنح الجميع الاحتفاظ بالآراء تحت سقف الإجماع الداخلي، فيما الذوبان يمثل الاضمحلال الكامل في الجماعة، مما يفقد الكثير الاستقلالية، ويقضي على الكيان الذاتي.

كاتب صحفي