آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:17 م

الشخصية السوية

ورد عن الإمام الباقر : من كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه» «بحار الأنوار ج 75 ص 188».

تلك الحالة من الاهتزاز والاضطراب الناشيء من خوف بروز الوجه الحقيقي له، هو ما يلجيء المرء نحو إخفاء واستبطان تصوراته وآرائه ومشاعره، ويطفح على سطح علاقاته ومنطقه ما يتناسب مع الأجواء التي يعيشها على الصعيد الديني والثقافي والاجتماعي، فخوفه من العقوبة المادية أو المعنوية وخسارة مكتسباته أو الوقوع تحت خط النبذ الاجتماعي يدفعه نحو ذلك، وقد يكون ضعفه أو تعاجزه عن المثابرة في دروب الحياة يولد في قلبه مشاعر الحقد التي يخفيها بعدا عن أي توتير لعلاقاته.

هنا إشارة لنقطة مهمة تتعلق بما يطفو على السطح من أسلوب وتعامل الشخص ومشخصاته الدينية والاجتماعية مع ما يستبطنه من قناعات وأفكار ومشاعر، فهذا التوافق والانسجام ما بين الظاهر والباطن من عدمه يقسم الأفراد، فهناك من تراه لبيسا للأقنعة ويتقن التلون الاجتماعي فيظهر ما ينسجم مع قراءات الآخرين وما يعجبهم، بغض النظر عن قناعته بها من عدمه ولكنه يحمل هما واحدا وهو إرضاء الآخرين والظفر بثقتهم واحترامهم، فيخفي ويضمر من المشاعر والأفكار ما يخاف إظهاره، لما يلحقه به من أذى وخسائر اجتماعية هو في غنى عنها - في نظره -، ونصادف كثيرا من هؤلاء الممثلين على مسرح الحياة والذين يخشون على مصالحهم والتي تحركهم يمنة ويسارا ويتوافقون معها في مواقفهم وعلاقاتهم، وهل الخبث واللؤم وسوء السريرة والظنون السيئة إلا نماذج لغير السويين والذين في ظاهرهم رونق جميل بينما سواد القلب والحقد هو ما يضمرونه وهو ما يمثل حقائقهم.

وكذا بالنسبة لطموح الإنسان المفرط وشغفه المستمر بتحصيل متع الحياة الكثيرة والمتنوعة تكون سببا لفقدان المناعة في مقاومة الأمراض المعنوية، حيث تُسلب من الإنسان الرؤية الصحيحة والبصيرة الناجعة في تشخيص الطريق الحق حتى يصل الى مرحلة يتوسل فيها بأية وسيلة وطريق للاستحواذ على مطلوبه، ولو استعان برذيلة النفاق فيتعامل ويتسلح بالأخلاق السيئة كاللؤم وبث الشائعات والفتن والنميمة والتملق وما شاكل ذلك، إذ يستبطن قلبه المريض حينئذ بالأخلاق الفاسدة لأجل تحصيل مصالحه وضمان وصوله لها دون وجود موانع.

فالازدواجية وحالة الانفصام في الجانب الأخلاقي والاجتماعي يشكل جانبين يختلفان تماما، فالجانب الظاهري لا يحكي عن واقعه وإنما يعبر عن وسائله الماكرة التي يحاول أن يكسب بها مكانة بين الناس ويحظى بثقتهم، بينما هو في الجانب الخفي يستبطن الحقد والسخرية بالآخر ونفثة الفساد ومساويء الأخلاق، فما أكثر من يظهر المودة واحترام الآخر بينما هو يغيب الجانب المظلم الحقيقي منه الكراهية والحسد، وهذا يعني وجود من يتقن التخفي خلف الأقنعة الزائفة ويتكيء على ملفوظه الرقيق والمدح الزائف بغية الوصول إلى مآربه المريبة، فهناك من يمتلك لسانين ووجهين يلعب من خلالهما على أوتار التخفي وعدم انكشاف أمره مستغلا طيبة الناس وتسامحهم وسذاجة البعض.

وهكذا حال من يطلب بالعموم زخارف الدنيا من مال ووجاهة ومكانة خاصة بين الناس، إذ تصيره النزوات عبدا ذليلا أسيرا لها وينفذ كل شيء من أجل مصالحه، ضاربا بعرض الحائط كل القيم والأعراف والرادع الديني، فلا حرج عنده حينئذ من ارتكاب المخالفات الشرعية والأخلاقية، بل ويسقط ماء الحياء من وجهه فلا يرعوي للأعراف الاجتماعية ولا يستحي من انكشاف وجهه الحقيقي بعد انتهاء مصالحه.

وكما أن التولع بالشهوات وتحكم الأهواء من العوامل المؤثرة في حدوث حالة الازدواجية والانفصام بين الظاهر والباطن ولبس الإنسان للأقنعة الزائفة، فكذلك القلوب السوداء التي تغشاها الكراهيات والأحقاد والمشاعر السلبية تجاه الآخرين وتتولع بعقد المقارنة بالآخرين من عوامل هذا الانفصام، فمن جهة يريد أن يحافظ على مكانته بين الناس، ومن جهة أخرى لا يتحمل نجاح وتميز الغير عنه، ولذا يلجأ لإخفاء حقيقة مشاعره السوداء ويظهر المودة والاستلطاف للآخرين.

وتربية الطفل من الصغر على الصدق والصراحة يجنبه هذه الازدواجية، ففي بيئة وأسرة تزاوج بين تشجيعه على كل فعل صحيح يرسخ القيم والآداب في نفسه من جهة، ويعاقب بحزم وحب واحترام إن أخطأ أو قصر في واجباته بعد تبيين ما وقع فيه، ترسخ في نفسه تحمل مسئولية تصرفاته مهما كانت، ويتقبل النقد والتوجيه لأخطائه فلا يعيش وهم المثالية الزائدة، فإن منشأ هذا الخبث الباطني والتلظي خلف الأقنعة هو الوقوع تحت نير العقاب العنيف والضرب والاستهزاء به والتهكم عليه، وسلبه أي فرصة للتعبير عن مشاعره وآرائه وعدم احتضان مخاوفه أو نقاط ضعفه بالتعزيز والتحفيز على السلوك الصحيح.