آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 9:48 م

الألق والكرامة

ورد عن الإمام العسكري : من كان الورع سجيته، والإفضال حليته، انتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه» «بحار الأنوار ج 75 ص 377».

الهدف من التربية القرآنية ورسالة الأنبياء والمصلحين هي صياغة الشخصية الإنسانية وفق معايير السمو والرفعة الفكرية والسلوكية والاجتماعية، بحيث تجعل من تكامل النفس وترفعها عن الموبقات ومواطن الزلل هي الغاية التي يسعى إليها المرء حثيثا طوال حياته، وما التشريعات والعبادات إلا مواطن قوة تكسبه نزاهة النفس بمجانبة الانزلاق في وحل النزوات، فطريق القوة النفسية والهمة العالية هو ما يسعفه في الانطلاق في هذا المضمار بكل قوة واقتدار والنهوض من العثرات.

هذا التكامل وجني المكتسبات من الصفات الحميدة والتخلي عن الرذائل هو ما يقربه إلى الله تعالى، فتلك النفحة الربانية بالعناية الخاصة به تنال من يسير في مسلك التنمية الإيمانية وتحصيل مضامينها، وكذلك من جهة المرء ذاته فإن مصدر الرضا الإيجابي عن نفسه وبواعث السعادة هو رؤية نفسه خالية من آفات الأهواء وأمراض القلب الأخلاقية، ومن جهة ثالثة فإن أعين حاسديه الذين يكنون له الكراهية ويتمنون رؤيته ساقطا في مطب تقصير أو خطيئة تخرس ألسنة الحقد عندهم، وذلك لما يتناثر من طيب عبق جمال روحه وأخلاقه وتعامله الطيب مع الجميع.

الصفة الأولى التي يشير لها الإمام العسكري وتعد مقوما مهما ورئيسيا من مقومات السمو الروحي عنده هي صفة الورع، فماذا يراد من هذه الخلة وتأثيرها على مسار الإنسان ومكنونات نفسه؟

الورع هو توقي المرء للمحرمات ومساقط الذنوب وموارد المعاصي مما يسخط الله تعالى عليه، فالنفس تعيش حالة من الصراع بين مسار الخير والشر، فمتى ما غلب عقله وإرادته في اتخاذ خطواته وقراراته فإنه يحفظ نفسه من مسببات الآثام، فما يدعو للمعصية وارتكاب الآثام هي النفس الأمارة بالسوء وتسويلاتها الداعية لفعل الخطيئة، وتهذيب النفس وتزكيتها من الرذائل هو الطريق إلى تقوية الجبهة الداخلية في الإنسان وتوعية ضميره لتجنب ما يجره نحو الزلات، وأما الإنسان غير الورع فلا يخاف الله تعالى ولا يمتلك رادعا ووازعا نفسيا يمنعه من تجاوز المحرمات، فيستجيب لتفلتات غرائزه ويقتحم المحظورات دون تفكير في عواقبها.

والسجية هي الفعل السهل المستمر الصادر من المرء بدون تكلف أو رغبة في مصالح يحققها، فالسجية الصالحة الداعية لتوقي المحرمات «الورع» تدفع المرء نحو التحرز الذاتي ومحاسبة النفس حينما تقع هفوة وغفلة في شراك التزيين الشيطاني.

والسمة الأخرى للشخصية السامية في علياء التكامل هي الإفضال، بمعنى التفضل والإحسان وتقديم كل ألوان المعونة وصنع المعروف للآخرين، إذ يتخلص المرء من أغلال تأليه الذات وروح الأنانية وينعتق من تبلد الوجدان تجاه آلام وحاجات الغير، فيهرع لنجدة وإسعاف المحتاجين بما أمكنه لخفف عن الغير همه ومشكلته، والإفضال لا يحتاج إلى مؤونة كبيرة فالابتسامة والكلمة الطيبة والتحية تجلب المحبة والألفة والثقة بين أفراد المجتمع وهذا من أهم أهداف وقيم الإسلام، إذ الأخلاق الفاضلة والمشاعر النبيلة تخلق حالة من الانسجام والتوافق المجتمعي.

وكما أن المرأة تتحلى بزينة الذهب لتعد من مظاهر الأناقة والجمال، فإن الحلية الروحية هي الأخلاق الفاضلة التي تعبر عن نفوس نقية لا تحمل مشاعر النكران والتجاهل للآخرين فضلا عن الكراهية، وهي من موجبات المقبولية والمحبوبية في الأوساط الاجتماعية، فإن النفوس تألف وتنجذب لمن يبدد القلق والمخاوف من قلوبهم ولو بابتسامته.

والنتيجة التي تتجلى لمن يتمتع بهاتين الخلتين: الورع والنزاهة النفسية عن دواعي النزوات من جهة، والأخلاق الفاضلة التي تنثر الثقة والاحترام بين الناس، هي مكانة اجتماعية تحمد فيها سيرته بين الناس ويذكرونه بالثناء الجميل على ما يصدر منه من نزاهة وخلق رفيع، وكفى بذلك واقيا ومانعا من حراب أهل العداوة والفتن الذين يفتشون عن العثرات والزلات ليفشوها في المجتمع بغرض التسقيط الاجتماعي، فإن محاولاتهم بالتأكيد تبوء بالقشل والخيبة مع من كانت نفسه نقية من أغلال الكراهيات والشهوات.