آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

نوح الحمام

‎في صباحِ اليوم بحثتُ عن قلمٍ لأكتب به رسالةً ولم أجد واحداً، ثم ورقةً ولم أجد! قلتُ تبَّاً لها من حرفةٍ انكسرت وماتت كل أدواتها التي كانت تمدها بالإشراق والتميز. بل الأدهى من انتهاءِ عصر أدوات الكتابة التقليدية هو انتفاءُ دورِ الكاتب الذي يكتب أفكاره ومشاعره تمشي فوقَ الورق لوحاتٍ من الجمالِ والإبداع.

‎اختفت الأدواتُ وماتت المشاعر التي تكون في الرسالةِ تعبر المحيطات والبلدان وكأنها تأخذ من كلِّ بحرٍ ومحيطٍ قطرةَ ماء ومن تربةِ كل أرضٍ تمر بها ذرةَ تراب. ثم لا تكاد تصل إلى قارئها حتى يشمها ويضمها وكأنه يشم ويضم من كتبها. من كتبها تأنى واختار ما يخرج من قلبهِ، ولا يمر بعقله، ثم إلى الأصابعِ والورقة، ماتت الأدواتُ ومات الكاتب.

‎أدواتُ اليوم سهلة، إن تاه فكري قصصتُ ولصقت ما قال فلان، ثم هكذا تنتهي الأمور ولا حرج، فلن تسودَّ الصفحة بسبب الممحاة التي أحصت كم من مرةٍ دارت الكلماتُ والجمل في طاسةِ رأسي التي أزالَ بها عقلي كلَّ شوائبِ العاطفةِ والإنسيابية، معلنةً التوبة عما تعرى من أفكاري ومشاعري في إخبار من أحب ما شئت. كم من قصاصةِ ورق احتفظتُ بها ليس لأنها رسالة لكنها رسالةً ممن أحب، رسائل يود أحدنا أن توضعَ مع جريدةِ الدفن لا تنفك تلامس جسده وروحه، يأخذها معه في الجنة.

‎كان الشوق في القديم يتوثب بالمشتاق ويحفزه على الانتظارِ والبقاء حتى تصلَ الرسالةُ وكأن فيها مضادات الموت والعلل. الآن لا داعي للإنتظار فكل شيء في لحظات، لا فرقَ بين بيعِ البضاعة في رسالة أو إيداع المشاعر فيها. مسودات الكتابة والرسائل كانت مُسَوَّدَةً بالحبرِ والخطوط الأفقية فوق الكلمات تشطب ما أراد الكاتب، مسودات صارت كلها بيضاء لا خطأَ فيها من نحوٍ أو صرفٍ أو إملاء، فالآلة اعتنت بها. ليس بعيداً أن يخترعَ البشرُ الآتٍ تكتب ما يجول في خواطرهم وتحولها كلمات مقروءة وتصبغها بألوان الدفء الحمراء أو البرودة الخضراء!

‎ما نكتب هو جزءٌ منا، فيه بصمات أيدينا وفكرنا، ومن تصله يلقي عليها نظرةً واحدة يقول هذا خط فلان يحمل مشاعره وأنفاسه وعقله، لا تخطئه العيون، كما لا يخطأ العارفون قصائدَ المتنبي وأبو العلاء تقاربا أو ابتعدا. كل خطوطنا واحدة وكل جملنا واحدة وكل مشاعرنا جامدة، فمن يعرفها الآن! ماتت الأدواتُ وماتَ الفعلُ والفاعل فمن يكتب ومن يقرأ رسالةً جامدةً مِيْتَةً لا حراكَ فيها.

‎كانت رسائل الورق محطات تجمع الغرباءَ والمحبينَ فيها لقاءٌ وعتابٌ وشجن وتوديع تعبر المحيطات والبلدان يفضحها اسمُ المُرسل والمرسل إليه وطابع بريد يطير بها حمامُ الزاجل يحط بها السهولَ والوديان، ماتت أدواتها ومات كاتبها وقارئها بين الموتِ والحياة. وفي موتِ هذه الأدوات علامات وبوادر موت الأدبِ والأديب!

مستشار أعلى هندسة بترول