آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

يومَ بكيتُ فاطمة

المهندس هلال حسن الوحيد *

هل لديك ابنة؟ إن كان عندكَ واحدة فسوفَ تعرف شيئاً من كمِّ حبِّ البنات لآبائهن. سرُّ انجذاب البنتِ لأبيها يبقى سراً كما انجذاب الأبِ وحنانه وعطفه عليها. يملك الأبُ نهرين من العقلِ والعاطفة يجري العقلُ في أولاده والقلبُ يملكهُ ويَعُبَّ منه البنات. جرى نهرا حب وعقل النبي محمد ﷺ في مصبٍّ واحد، هي ابنته فاطمة . شمَّ النبي ﷺ فيها رائحةَ الورود التي تجمعت فيه وجرت من أسلافه، وشمَّ فيها رائحةَ محبوبته الكبرى خديجة ورائحةَ العظماء الذين سوف يمرونَ للدنيا من رحمها، فكيف رأته هي؟

لم تكن حياة فاطمة في زمانِ أبيها مترفةً تخدمها الإماءُ والعبيد وتنام على فرشِ الحريرِ الناعمة، بل كانت حياةً أكثرَ خشونةً من معظمِ أقرانها، لكن كان يكفيها أن تستظلَّ وتركن في قساوةِ وهجير تلك الحياة إلى نعومةِ قلب أبيها حين تغفو وتنام وتصحو وهي تعرف أنها تنام فيه دونَ منافسة. تلك الحياة وإن لم تكن رغيدةً ناعمةً، لكنها كانت سعيدة، لم تبك فيها فاطمةُ فيها فسلسلةُ الحزنِ لم تنتظم بعد!

يمكنني أن أفهم كيف رأته في حياتها من حقيقةِ موتها حين مات! ماتت فاطمة فعلياً في اللحظةِ التي انسلت روحُ أبيها من جسده. برحَ الحزنُ والشوقُ بها لأبيها فلم يدعا لها مساحةً من الفرحِ والبهجة حتى أنَّ آخر بهجتها في الدنيا كانت حين سارّها أبوها بأنها هي من سوف تكون التالية التي تُسدل الستارَ على حقيقةِ الحياةِ المرة والأليمة بعده لتنتقلَ إلى بهجةِ الحياةِ الحقيقية والدائمة.

لم تستطع فاطمة إخفاء ذلك الكم من اللوعةِ والأسى منذ مات أبوها وسندها والرجل الذي رأته في اللحظةِ التي انسلت فيها من رحم خديجة، لتراه نبياً عظيماً وأباً يشمها كل لحظةٍ ويذكرها بأنها ريحانته من الدنيا. فاض نهر الحزن من فمِ فاطمة فجرى أرقَّ رثاءٍ رثته ابنةٌ وقالته في أبيها:

مَاذَا عَلى مَن شَمَّ تُربَةَ أحمدٍ

أَنْ لا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوأَنَّهَا

صُبَّتْ عَلَى الأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا

بكيتُ محمداً ﷺ يوم موته كثيراً مع أنه استراح من تعبه، وبكيتُ فاطمةَ كثيراً لأنها الوردة  الغضَّة التي انزاحَ عنها ظلُّ شجرةٍ وارف، فلم تقو على حرِّ الهجير وماتت. لم أبكها في الأيامِ القليلة التي عاشتها بعده، بل بكيتها لحظةَ أعلنَ عليٌّ زوجها أنَّ أباها قد مات. حينها مات محمدٌ وماتت فاطمة!

ماتَ النبيُّ محمد ﷺ وماتت فاطمة وتركا مدرسةً يتعلم منها الآباء كيف يحبونَ البنات وكيف يحبهم البنات. مدرسةٌ لا تطلب مالاً ممن ينتظم فيها، بل تطلب تقليبَ صفحاتِ الطيب في التاريخ وقراءتها. مدرسةٌ كانت البنت تُوأد قبلها حيةً في عصورِ التوحش الإنساني ومدرسةً بعدها بقيت كلمة الحبِّ تستحي من البنات! حقَّ لفاطمة أن تقولَ بعد إغلاق تلك المدرسة بابها للأبد:

 قَلَّ صَبرِي وَبَانَ عَنِّي عَزَائي
بَعدَ فَقدِي لِخَاتَمِ الأَنبِيَاءِ
عَينُ يَا عَينُ اسكُبِي الدَّمعَ سَمحاً
وَيْكِ لا تَبخَلِي بِفَيضِ الدِّماءِ
يَا رَسُولَ الإِلَه يا خِيرةَ الله
وَكَهفَ الأَيتَامِ وَالضُّعَفَاءِ
لَوتَرى المِنبَرَ الَّذِي كَنتَ تَعلُوهُ
قَد عَلاه الظَّلامُ بَعدَ الضِّياءِ

مستشار أعلى هندسة بترول