آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

وانتصرت

الخلوة مع النفس وتأمل ما يقع منا من تصرفات هو بداية الطريق لحفظها من السقوط في هاوية الخطايا والآثام والعيوب، فزحام الدنيا ومشاغلها يأخذ المرء بعيدا عن تفحص أفعاله والتدقيق فيها تجنبا للوقوع في حفر الدنيا ومواطن الزلل فيها.

كثيرا ما نبحث عن تحقيق انتصار وهمي نستشعر معه الإحساس بالقوة والغلبة وقهر إرادة الغير، ونتيه في دروب الحياة فنظنه قد تحقق الوعد برفع صوت أو شتم أو سخرية أو تكبر وتعال على الغير، ونرتد بالخيبة مقهورين بإحساس الضعف الداخلي.

السبب في ذلك هو الجهة الخاطئة التي نصوب حركة قدراتنا باتجاهها فنبوء بالخسران، إذ الوجهة الحقيقية تكمن في دواخلنا وليس بعيدا عنا نفتش عنها هنا وهناك، إنها أقرب شيء إلينا يتمرد وتكثر طلباته فنجري خلفه مهرولين دون وعي أو إدراك لعواقب هذا السير التخبطي، فالنفس كالفرس الجامحة تخبط بنا خبط عشواء ما لم نلجمها بلجام التعقل والحذر من الخطى التهورية والانفعالية، فخير سعي نتحرك من خلاله هو تهذيب أنفسنا وتنزيهها من النزوات التي تنزلق بنا نحو هاوية السقوط، فالاستجابة المستمرة للرغبات والأهواء ليس لها من نتيجة إلا الهزيمة النفسية وفقدان احترامنا لذواتنا، فالشعور بالصغر والعجز نتيجة مؤكدة لأسر وأغلال الشهوات فنحكم على أنفسنا بالسقوط والخسارة قبل أن نبدأ أي جولة صراع في الحياة، والانتصار الحقيقي هو الدفع بالنفس نحو علياء التحرر من قيود الشهوات، والقدرة على التقدم والامتناع نتيجة لما يتصوره من آثار مستقبلية لفعله، فلا معنى للعلاقة القربية من الله تعالى وممارسة العبادات إلا بمجاهدة الأهواء والتحرر من قيودها، ولا سعادة بلذة لحظية تعقبها الحسرة الممتدة، بل هي القدرة على الامتناع عما يسبب له عطبا وضررا ينحدر به، فخور الإرادة وسهولة استتباع نفسه للشهوة هو وسمة عار على المخلوق المكرم، فمن أحب أن يوسم بالشجاعة والقوة فلينظر لمن تحلوا بالخلق الرفيع وسمت نفوسهم عن دناءة الحقد والغرور، أفليس من الانتصار تجنب التشفي والانتقام، والقدرة على العفو عمن ظلمك وأساء لك، فتغلب عليك سمة التسامح؟!

ومما يعين الإنسان على مجاهدة الأهواء هو إحاطة نفسه بأخيار يزينون له الخير والصلاح، ويأخذون بيده إن سقط يوما أو أخطأ لينصحوه ويوجهوه، فصديق السوء وصاحب النفس الشريرة لن يدعو يوما إلا لسبل الانحطاط والعدوان.

والزم محراب المناجاة والإقرار بين يدي الجليل تنتصر على أهواء نفسك، فتأمل عظم جنايتك وخطير ما اقترفت يوم تقف على دكة الحساب والجزاء في عرصات يوم القيامة.

وليكن من جهاد الأهواء نصيب للجم اللسان عن سيء القول وفحشه، فالحكمة لا يتلقفها من نهش بأنيابه أعراض الناس، وانصرف عن إنضاج فكره بمدارسة المعارف الحقة وتحريك اللسان بها؛ لينشغل بالغيبة والنميمة وتتبع عثرات الآخرين والتفتيش عنها.

ومن داوم محاسبة النفس ومراقبة نتاج جوارحه انعش قلبه وحرك دورته التصويبية نحو الحق والفضيلة، فحقيقة الأمراض الأخلاقية والآفات الاجتماعية لا تظهر أعراضها لمن أصيب بالغفلة وعمى البصيرة، فجهاد النفس عملية تربوية وتدريبية مستمرة تحفظها عن مقاربة الأخطاء وارتكابها وتحولها مستقبلا لسلوك مترسخ فيها.

الحياة في حقيقتها ليست إلا ميدان صراع بين إرادتنا وما حولنا من طيف البلاء، واختيار طريق الخير أو الشر ليس بتسلط من أحد علينا أو قهر لعزائمنا، وحتى الشيطان الرجيم الذي نرمي عليه أخطاءنا كشماعة تشفي غرورنا وعزتنا بالإثم، ليس له من أثر سوى التزيين والإغراء للسير في طريق الخطايا، ومتى ما كانت إرادتنا قوية بعقل رشيد وسلوك يتم عبر خطوات منظورة العواقب فستتبخر فقاعات غوايته.