آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

سير الرجال

المهندس هلال حسن الوحيد *

من أجملِ ما نسمع من الأحياءِ هي حكاياتُ أيامهم التي سلفت يروونها على ألسنتهم، ولأننا لم نعش كلَّ الدهور التي خلت وانقضت ولم نلتقِ كلَّ من تقنا ونازعتنا أنفسنا سماعَ روايةِ حياتهم، فلن نعدم قراءةَ من كتبها منهم. وليسَ أبهى وأبدع من سيرةِ النبي محمد بن عبد الله ﷺ التي حكاها عن نفسه وكتبها عنه من أتى بعده. فإليه تنتسب كلُّ فضيلة وتنتمي كلُّ منقبة. قاربَ الكمالَ في كلِّ شيءٍ ولامسه، وخلا من النقصِ في كلِّ شيءٍ وفارقه. ويجمل بنا أن نسأل: هل قرأنا نحنُ من نعرفه سوى أسطرٍ أو أقل من تاريخه؟ تشرف بمدحه محمد بن سعيد البوصيري في قصيدته المسماة ”البردة“ فقال:

نبينَّا الآمرُ الناهي فلا أحدٌ

أبَرَّ في قَوْلِ «لا» مِنْهُ وَلا «نَعَمِ»

هُوَ الحَبيبُ الذي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ

لِكلِّ هَوْلٍ مِنَ الأهوالِ مُقْتَحَمِ

دعا إلى اللهِ فالمستمسكونَ بهِ

مستمسكونَ بحبلٍ غيرِ منفصمِ

فاقَ النبيينَ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ

ولمْ يدانوهُ في علمٍ ولا كَرَمِ

وكلهمْ من رسول اللهِ ملتمسٌ

غَرْفاً مِنَ البَحْرِ أوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِ

يسابقنا الزمنُ حين نقرأ سيرةَ من مضى وكيف أصبحت بديعةً بعد مضي السنين ومن كتبوها، وأغلاها يكون عندما يبوح صاحبُ السيرة لنا بأسراره ويفتح لنا كوةً نطل منها لنرى إنجازاته وإخفاقاته. سيرةُ من مضى هي تاريخٌ يكتبونه ويقدمونه لمن بعدهم، ولم أجد أحداً وصف سيرَ الماضين أروعَ من وصفِ الإمام علي بن أبي طالب وحثه لابنهِ الإمام الحسن على الاستفادةِ من تلك السير عندما أوصاه قبيل موته: ”أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي - فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ - وسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ - بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ - قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ - فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِه ونَفْعَه مِنْ ضَرَرِه - فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَه - وتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَه وصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَه - ورَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ - وأَجْمَعْتُ عَلَيْه مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ - وأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ ومُقْتَبَلُ الدَّهْرِ - ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ ونَفْسٍ صَافِيَةٍ“.

سير الرجال والنساء هي مدنٌ فيها ما يبكي وما يضحك وفيها تاريخٌ ورسائل ومعارف، خطَّ ساكنوها على جدرانها وحيطانها بأيديهم من الموعظةِ لمن بعدهم ما يعوض غيابَ أشخاصهم من الدنيا، وفي بعضِ قصصهم ما ليس إلا حكايا نقرأها في ليالي الشتاءِ الطويلة نقلبها تحتَ دفء الفراش في ضوءٍ خافت. أين عاشوا وكيف عاشوا وماذا عملوا وتركوا من إرثٍ حضاري ومعرفي وثقافي؟ فالتاريخ له أبوابٌ متعددة يدخل منها الناس بقدر أحجامهم. جمالُ الحياةِ والسيرة ليس محجوزاً للنبلاءِ والعلماء والفلاسفة أو الرجال، بل في الجمالِ ما يكفي أن يبقى شيءٌ منه لكلِّ الذين عاشوا وماتوا وحفروا في التاريخ عمقاً بقدر ما وصلت إليه أناملهم وأياديهم وخطته أفكارهم.

من نعمِ الله أنَّ في الحياةِ من الحكمةِ ما يصم أسماعنا عن ضجيجِ الأحياءِ فنرتاح من صراخهم تحت ظلالِ من كتبوا بصمتٍ وصدق وتركوا لنا الحُكم على عظمتهم أو صغرهم بمحضِ إرادتنا. أمواتٌ كتبوا لنا "إن كنتم تستطيعون أن تفعلوا أفضلَ مما عملنا فشمروا عن سواعدكم واعملوا".

مستشار أعلى هندسة بترول