آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

أماكن الروح في جزيرة تاروت

عباس سالم

لم تكن جزيرة تاروت مجرد جزيرة تحيطها البحار وذات أبنية ومزارع وأسواق فحسب، بل كانت أيضاً جزيرة تضج بالروح في بحرها وفي مزارعها وبساتينها ومقاهيها الشعبية، وحين توجد الروح توجد الآلام التي تخشى أن تكشفها أشعة الشمس الساطعة فوق ربوعها.

عرفت بلدتي «جزيرة تاروت» الواقعة على الكتف الشرقي لمدينة القطيف، وكانت البلدة تزينها البيوت والبساتين والوديان، ويتسع البيت برمزيته إلى الشجرة والحمار وبعض الأبقار والأغنام مع ممر صغير «الطريق»، كما تتسع الشمس بفائض دلالاتها على بيوتها فلا تعدو مجرد مصدر الضوء الذي ينير نصف يومنا، فكيف تحضر الحضارة والتاريخ اليوم في أرواح أطفال لم يروها قط؟ وحضورها يصبح أكثر قوة في معرفة من عاشوا فيها.

لدي مخزون هائل من الذكريات عن بلدتي التي أكدتها ذاكرة الأقارب من أجيال سبقونا ومن الأصدقاء من جيلنا، فالذكريات نهر طويل لا تغتسل فيه أرواحنا وخيالاتُنا مرة واحدة فهي تتجدد في كل يوم، وهي الشيء الوحيد الذي لا تستطيع أن تقول إنك نسيته خلفك في فوضى الرحيل أو هجران المكان وفي أيام زمان لم يكن هناك شيء ننشغل به ويشغلنا ويُبكينا غير الذكريات الجميلة التي تظل في الذاكرة قبل أن تمحيها هموم الأزمان التي غيرت كل شيء فينا.

استهوتني أماكن الروح في بلدتي جزيرة تاروت ربما لأنني وزملاء الطفولة والصبا كنا نعشق تلك الأماكن ولربما لأن من سبقونا بالعيش على هذه الأرض الطاهرة هم من كانوا يعملون في زراعتها وهم من كانوا يعملون في الغوص في بحرها، وربما كانت تلك المسحة من السمرة التي وسمت وجوه الكثير من الناس في بلدتي زرعتها أشعة الشمس الحارقة في خلاياهم، لأنهم هم من عمل في زراعتها واعتنى بها وهم من عانق الأمواج العاتية ولم تمنعهم حرارة الصيف وشدة البرودة في الشتاء من مزاولة مهنة صيد السمك من أعماق بحرها.

جزيرة تاروت كان لها النصيب الأكبر في قلبي، فبرغم كل الانكسارات في المشاريع الخدمية فيها بقيت عصية على الانكسار، ربما لأن فيها أماكن ذات روح وقلب وحضارة، وأن ضجيجها المؤلم على ضياع الحضارة من قلعتها التاريخية وعلى البيوت التراثية في المنطقة القديمة «الديرة» ما هو إلا تأسفاً على تلك الحضارات التي عبثت الأيدي بروحها وهجران الناس لها..!!

استهوتني بيوت «الديرة» في المنطقة القديمة الواقعة في قلب جزيرة تاروت، ربما لأنني تربيت وعشت في واحد من بيوتها الجميلة بشكله المعماري القديم، متمثلاً في الأقواس والشبابيك والأعمدة الدائرية، بالإضافة إلى روازنه الجميلة وهو بيت جدي المرحوم الحاج «منصور علي الرويعي» صاحب الابتسامة الجميلة التي لا تفارق محياه يرحمه الله تعالى.

الجانب الذي علينا أن نعرفه عن «الديرة» التي نكتب عنها هو: بيوتها الجميلة بأقواسها وزخارفها وصاباتها، المعالم الرئيسية فيها «قلعة تاروت» القلعة الشامخة رغم الإهمال من الإنسان ومقاومة جور الزمان الذي غير لون طبيعتها، وهل المكان في الذاكرة شارع وحديقة أو بستان؟ أم أن المكان هو الإنسان، وبقدر ما تتسع نفس الإنسان يتسع المكان، وبقدر ما يضيق الإنسان تضيق الأماكن والأوطان التي هي تضاريس أرواحنا.

رائحة الماضي تشمها وأنت تعتلي المنطقة القديمة «الديرة» بين صاباتها وزرانيقها وترى البيوت تأن تحت ركام الماضي، والناس هناك يعشقون الجمال في بيوتهم الحجرية الجميلة، ذات الشرفات الواسعة التي تسرح فيها الشمس نهاراً وضوء القمر ليلاً، لكن الناس للأسف هجروها وتركوا تلك الشرفات والأقواس والزخارف الجميلة تتهاوى بسبب الهجران والإهمال..!!

وفي الختام تستهويني أماكن الروح في بلدتي «جزيرة تاروت» على ضفاف حمام تاروت حيث كان المكان الذي يجتمع الناس فيه للعمل كل صباح صافين قواريهم بانتظار الأرزاق من رب العباد، ومنهم من يغسلوا أجسادهم بالسباحة فيه، كما تستهويني أماكن الروح في بستان عين أم عريش وفي زيزه والمزارع المجاورة لمسجد الخضر، وبساتين سوامة وعين الصادق ونخل الجشي، وفي بستان مزرعة الكويتي ونخل الصفار، وفي عيون الوزارة ومزارع الحليبي، وفي مزارع الشمال وغيرها، التي للأسف قتلها الراكضون وراء المادة بالتعاون مع سماسرة العقار..!!