آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

الميول.. المجتمع

محمد أحمد التاروتي *

يمتلك المرء الحرية الكاملة في التعبير عن اتجاهاته الفكرية، وميوله الثقافية، فالعملية مرتبطة بالقناعات الذاتية، ومدى الاستعداد للتفاعل مع الحراك الثقافي السائد في المجتمع، لاسيما وان المستوى الفكري يمثل مدخلا للانخراط، في الحوارات والنقاشات الدائرة على الساحة النخبوية، في الصالونات الثقافية، وبالتالي فان محاولة فرض الوصاية على الاخر ينم عن قصور، وعدم ادراك بأهمية مساحات الحرية الممنوحة لكل طرف، في اظهار ميوله في جميع الاتجاهات الفكرية.

الاختلاف في التعاطي مع الاتجاهات والتيارات الفكرية، ليست مدعاة لممارسة الإرهاب الفكري على الأطراف الأخرى، لاسيما وان مساحة الصواب والخطأ تبقى متفاوتة تبعا لطبيعة الأفكار المتداولة، مما يعني ان ”امتلاك الحقيقة الكاملة“ ليس متاحا للجميع، خصوصا وان الاجتهادات الفكرية قابلة للتصويب والتصحيح باستمرار، ”و فوق كل ذي علم عليم“ وبالتالي فان القمع الفكري الناجم عن ”الاضطهاد الفكري“، يكشف قصورا كبيرا في طبيعية التعاطي مع الميول المغاير، لاسيما وان التباين الثقافي ليس مدعاة لخلق العداوة او الخصومة، بقدر ما يؤسس لمرحلة انضاج مستمر للتيارات الفكرية، تبعا للتطور الفكري البشري في مختلف الحقب الزمنية.

محاولة التقرب من التيارات المغايرة يكشف حالة من النضوج الكبير، والقدرة على استيعاب حرية التباين، لدى مختلف الأطراف، لاسيما وان العمل على نسق موحد يشل التفكير، ويعطل القدرات العقلية، ويحدث ”قصورا“ كبيرا في النضوج الثقافي على المدى البعيد، وبالتالي فان النقاش الفكري يثري الحركة العلمية، ويدعم الجهود الكبيرة لمواصلة مشوار العطاء الثقافي، بما يخدم المسيرة الاجتماعية في مختلف المجالات.

العمل على الاجبار وممارسة القمع الفكري، لا يقضي على حرية الميول، بقدر ما يسهم في احداث حركة مضادة كبرى للتعبير عن الرفض، وعدم الانصياع لمثل هذه التوجهات غير المنسجمة مع ”حرية الاختيار“، وبالتالي فان الاجبار في مرحلة زمنية لا يمثل انتصارا على المدى البعيد، بقدر ما يؤسس لحركة عكسية وغير متوقعة على الاطلاق، بحيث تظهر على شكل تيارات ”تكفر“ بالسائد الثقافي الاجتماعي، مما يمهد الطريق للخروج عن السيطرة، والانخراط في اتجاهات تسير باتجاه معاكسة تماما، الامر الذي يقود لنوع من الانقسام الفكري الشامل، في البيئة الاجتماعية، مما يؤثر على العقل الجمعي السائد في المجتمع، لاسيما وان القمع يولد انفجارات كبرى تصيب جميع التيارات الثقافية الاجتماعية.

عملية القبول بتعدد الاتجاهات الفكرية، لا يعني التنازل عن القناعات الشخصية، بقدر ما يفتح المجال امام تلك التيارات للتعبير عن ارائها، بصوت مرتفعة وحرية كاملة، نظرا لوجود مناخ قادر على استيعاب الجميع، الامر الذي يساعد في احداث تموجات فكرية، تنعكس على التفكير الجمعي في البيئة الاجتماعية، وبالتالي فان القبول لا يشكل خطرا على القناعات الشخصية، بقدر ما يسهم في اثراء المشهد الاجتماعي، مما يقود لحالة انسجام أحيانا، وتصالح أحيانا أخرى، نظرا لوجود الأرضية اللازمة، لنمو الوئام بين التيارات الفكرية السائدة.

الثقافة الاجتماعية تمثل المدخل الأساس، لتكريس مبدأ قبول الميول الفكرية، لدى مختلف الشرائح، خصوصا وان التصادم الفكري مرتبط بوجود عناصر غير مؤمنة بحرية الاختيار، مما يدفعها لجر البيئة الشعبية لاعلان الحرب الشاملة، على أصحاب الاتجاهات الثقافية المغايرة، بحيث تظهر على شكل حروب علنية ومكشوفة، او مصادرة النتاج الفكري لبعض النخب، على حساب نخب أخرى، اكثر قبولا في المجتمع، وبالتالي فان وجود أرضية التصالح يساعد في بقاء الأمور تحت السيطرة، ويمنع اندلاع الحروب الكلامية بين التيارات الفكرية المختلفة، مما يؤسس للكثير من التفاعل الإيجابي في مختلف المراحل الزمنية، نظرا لوجود ركائز ثابتة في البيئة الاجتماعية، تقوم على الايمان الكامل بحرية الميول، وعدم السماح لاصحاب المصالح الخاصة بالتدخل، وتخريب الوئام القائم بين مختلف التيارات الثقافية بالمجتمع.

كاتب صحفي