آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

الابتلاء من المهد إلى اللحد

عبد الرزاق الكوي

قال الشاعر:

يا بِنْتَ مُوسَى وَابْنَةَ الأَطْهارِ أُخْتَ الرِّضا وَحَبِيبَةَ الجَبَّار

يا دُرَّةً مِنْ بَحْرِ عِلْمٍ قَدْ بَدَت ْ لِلَّهِ دَرُّكِ وَالعُلُوِّ السَّارِي

أَنْتِ الوَدِيعَةُ لِلإمامِ عَلَى الوَرَى فَخْرِ الكَرِيمِ وَصَاحِبِ الأَسْرارِ

لا زِلْتِ يا بِنْتَ الهُدى مَعْصُومة مِنْ كُلِّ ما ليَرْتَضيهِ الباري

مَنْ زَارَ قَبْرَكِ في الجِنانِ جَزاؤُهُ هَذا هُوَ المَنْصُوصُ في الأَخْبارِ

السيدة المعصومة كريمة أهل البيت فاطمة ابنة الإمام موسى بن جعفر بن محمد بن بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب السلالة الطيبة جدها المصطفى صلى الله عليه واله وجدتها الصديقة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ، ولدت في المدينة المنورة في الأول من ذي القعدة سنة 173 هجري، في عهد الرشيد العباسي، ففتحت عينها منذ صغرها على وضع يكن الحقد الى اهل البيت تلطخت أيديهم بقتل الأنفس الزكية والمعاملة بالقمع فكانت حياة اهل البيت معاناة وابتلاء مستمر.

فالسيدة الجليلة فاطمة بنت موسى بن جعفر ، سليلة البيت الطاهر من نسل المصطفى الأكرم نبته خير وصلاح من الشجرة العلوية المباركة رضعت من ثدي الإمامة والولاية، محدثة، عالمه، عابدة، تقية نقية ترعرعت في بيت الطهارة والشرف فورثت عن هذا البيت الهدى والعلم والعقيدة الراسخة والعبادة والعفة، فبلغت من الكمال والنزاهة والفضل مرتبة شامخة، اختصها الله جل وعلا بملكة العقل والرشاد وقوة العقيدة وثبات الإيمان، احاطت بالكثير من العلوم الإسلامية والمعارف الدينية، كانت على انقطاع متواصل إلى الله عز وجل وفي غاية الورع والتقوى والزهد، غاب عن حياتها الشريفة وسيرتها المشرقة في طي النسيان مثلها مثل باقي اهل البيت عليهم جميعا ازكى السلام، فعمل التعتيم الأموي ومن بعده العباسي فعله في طمس الحقائق والأحداث والسيرة النبيلة من حياتهم المشرقة ما يوضح النزر اليسير من مقاماتها التي يجعلها من فضليات البشر فهي من بيوت أذن الله ان ترفع هداية للبشرية.

لقبت بالمعصومة قد ذكر لهذا وجوه متعددة ولكن أشهرها ما روي عن الامام الرضا بشانها وشان زيارتها حيث قال : «من زار المعصومة بقم كمن زارني».

قبض على ابيها الامام موسى بن جعفر من قبل هارون الرشيد وهي صغيرة السن، وظل في غياهب السجون متنقلا من سجن الى اخر حتى شهادته. وتواصل الابتلاء والمحن بعد وفاة الرشيد وقدوم المأمون وبدأ مشوار جديد من القمع والإرهاب والملاحقة لعثرة النبي صلى الله عليه واله.

قال تعالى : ﴿أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون.

عاشت جل حياتها في ظل ورعاية اخيها الامام علي بن موسى الرضا ، تربت على يديه اخدت منه مكارم الخلق وعلو الفضائل حيث عاشت جل حياتها في ظل غياب الامام موسى بن جعفر في سجون الرشيد فقد ولدت وقد مضى ثلاث سنوات على خلافة الرشيد الذي عرف ببطشه وظلمه ومعاداته وحقده على اهل البيت .

بعد المعاناة المؤلمة في عهد الرشيد وصل زمام الحكم الى المأمون العباسي الذي لا يقل ظلمه وبطشه على من سبقه وهو من قتل اخاه من اجل الوصول والتمسك بمقاليد الحكم، فتواصلت معاناة فقد ابيها مع ظلامة المأمون فكانت حياتها درب متواصل من الابتلاء المستمر منذ الولادة وقضاء مرحلة الشباب في غياب الأب، فتحت عيناها على الحياة بعيدة عن حنان وعطفه.

البلاء لغة، من فعل بلا، وبلا الشخص أي جربه، اختبره وامتحنه، أيضا تعني المحن والمصاعب، والجهد الشديد في الأمر.

قال تعالى:

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ والثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.

فكانت حياتها مثال للصبر على خطى جدها رسول الله صلى الله عليه واله وعلى درب جدتها الصديقة فاطمة الزهراء عليه السلام، فعانوا من الظلم وصبروا على الابتلاء فنالوا من الله عز وجل المنزلة الرفيعة والمكانة العظيمة والدرجات العالية فكل ما اشتد إيمانهم وتمسكهم بخطى النبي صلى الله عليه واله اشتد البلاء عليهم.

بعد تولي المأمون زمام الحكم اجبر الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام من قبل المأمون للحضور إلى خراسان، ودع الامام اخته معلن ان الشهادة هي ماتنتظره على يد المأمون، سافر وترك الأخت المظلومة وحيدة قلقة في المدينة المنورة حزينة على فراق اقرب الناس لها وحاميها، لم تستطع تحمل فراق الاخ الحنون والإمام العظيم فقررت عليها السلام بعد سنة من الفراق الذهاب الى لقاء اخيها الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام حيث تملكها الخوف على مصيره وأن لا تلتقي معه بسبب الخطر المحدق به، فرافقها اخوانها وابناء عمومها وجمع من اهل بيتها، فمنعت جلاوزة المأمون المجموعة الوصول إلى خراسان حيث قتل جميع مرافقيها من الرجال في معركة دامية، مرضت عليها السلام بعد هذه المأساة على ما اصاب اخوانها وابناء عمومتها و حزنا على عدم استطاعتها للقاء اخيها الامام الرضا عليهم السلام وانتقلت إلى الرفيق الأعلى بعد ستة عشر يوما من المعركة التي راح ضحيتها اخوانها وابنا عمومتها ظلما وعدوانا احتسبته عند الله وكما قال جدها الامام الحسين عليه السلام: «هون ما نزل بي أنه بعين الله».

اليوم وبعد الابتلاء والصبر رزقها الله بالكرامة واصبح الحرم المبارك للسيدة فاطمة المعصومة منارا للهدى ومهوى للقلوب وراحة للنفوس، يقع على مساحة تقدر بثلاثة عشر ألفا وخمسمائة وسبعة وعشرين مترا مربعا كما جاء في بعض التحقيقات، كما أصبحت ملاذا للعلم والعلماء ونشر علوم اهل البيت عليهم السلام.

ان كل الابتلاءات التي عاشتها السيدة المعصومة عوضها الله عز وجل هذا المقام العظيم في الدنيا لا يناله الا ذو عطاء في سبيل الله عز وجل فقد أعطت وصبرت ونالت مقام لا يناله الا الأنبياء والأئمة عليهم السلام، نجحوا في الامتحان وكانت النتيجة المكانة الرفيعة احبها الله عز وجل فابتلاها فكانت من المهد الى اللحد مظلومة في معاناتها في غياب الاب ومظلومية الاخ، اعتبرت كل ذلك قربة تتقرب بها عند خالقها عزوجل.

فالأنبياء والأولياء والعظماء والمصلحين هم من تصب عليهم المحن والابتلاءات. فلم يسلم من ظلم بني العباس الائمة عليهم السلام ولا اهل بيتهم والاقربون منهم وصولا الى اتباعهم، فكل من أوصى الرسول صلى الله عليه واله بحفظ مكانتهم وجدنا المعسكر الأموي والعباسي يتربص بهم ظلما وعدوانا.

عن الصَّادِقِ عليه السلام فِي خَبَرٍ أَنَّهُ قَالَ : «وَ إِنَّمَا يَبْتَلِي اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ عِنْدَهُ» [2] 

فالرسول صلى الله عليه واله امر بحفظ مكانة اهل بيته عليهم السلام وعرف الناس مكانتهم وحبه لهم كما بلغ مكانت وفضل بعض الصحابة أمثال ابي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وغيرهم من ارتبطوا ووطنوا أنفسهم على خط الولاية والإيمان الصادق فحل عليهم الاذى والمحن ونالوا الخلود وارفع الدرجات بما رضوا وصبروا ولم تغيرهم المحن قيد انملة بقوا نبراس ومثال يقتدى به وقس على ذلك باقي اصحاب الائمة عليهم السلام وعلى شيعتهم في كل مكان وزمان تتربص بهم الفتن وتحاك عليه المؤمرات لانهم موالين الى اهل البيت عليهم السلام.

قال الامام الصادق عليه السلام :

«كان الامام علي عليه السلام يقول إن البلاء أسرع إلى شيعتنا من السيل إلى قرار الوادي».