آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 12:58 م

الانفصام في رؤيتنا للتاريخ والتراث

أمير بوخمسين صحيفة الرأي السعودي

الانبهار بالحضارة الأوروبية الحديثة من قبل مثقفينا بمختلف تياراتهم الدينية والعلمانية، نسوا «أن الإنسان الأوروبي لا يعاني من قضية الصراع بين التراث والحداثة» مما جعل معظم مثقفينا بمختلف توجهاتهم يتوهمون أن الأوروبي قد تجاوز التراث وترفع عن الماضي، واتجه نحو الحداثة والمادية والعلم، منذ عصر التنوير والثورات الديمقراطية والصناعية.

بينما الحقيقة هي العكس تماما، فالأوروبيون عاشوا ظلامية العصور الوسطى، تلك العصور الفاشية التي اتسمت بالقتل والتنكيل وأبشع الجرائم البشرية التي يندى لها الجبين، مما دفع بالنخب الأوروبية اتخاذ خطوات الإصلاح للتخلص من ظلامية العصور الوسطى، هذه الخطوات تكللت بتصالح الفكر المسيحي الأوروبي المهيمن مع التراث قبل المسيحي «الإغريقي والروماني»، الذي كان مندثرًا خلال العصور الوسطى، حتى وصل الأمر بالأوروبيين، بأن الكاهن المسيحي أصبح لديه انتماء طبيعي لتراثه المسيحي.

حيث إن الأوروبي مهما كان متدينًا أو علمانيًا تراه يقرأ ويدرس الإنجيل وكتب القديسين مع كتب الإغريق والرومان وباقي التراث المحلي والأوروبي، هذا ولد شعورًا لدى النخب المثقفة العربية بأن أوروبا لم تعش الحالة الظلامية في العصور الوسطى والواقع خلاف ذلك، حيث إن ما نشاهده الآن من التطور التقني التجديدي والمستقبلي، لم يكن إلا نتاج المخاض الأليم الذي دفعت من خلاله الكثير من الخسائر على كل المستويات البشرية والمادية وغيرها، فحالة التسامح مع الذات والتاريخ هي الأساس لبناء تلك النهضة.

أما نحن فبدل الاستفادة من تجارب الأمم والحضارات السابقة انزلقنا في وهم الفصام بين التراث والحداثة، ففشلنا في توحيد أجزاء تاريخنا وماضينا وتراثنا، ولم نستفد من التجربة الأوروبية، وقمنا بتجزئة ماضينا إلى ميراث وتواريخ متعددة ومتناقضة «إسلامية وجاهلية وقومية وقطرية» وكأنما أصبحنا شعوبًا مختلفة التقاليد والأصول والأوطان، وتتناقض بالمنطق والجغرافيا واللغة والفنون والآداب وتقاليد المأكل والملبس وجميع تفاصيل الحياة اليومية، فالتياران القومي والديني اللذان تبنيا التاريخ العربي والإسلامي مع بعض التنويعات في تقويم الأحداث والمعاني الدينية واختلاف المواقف في مسألة التحديث، يتفقان على اعتبار التاريخ الوحيد الذي يستحق التقديس والانتماء هو التاريخ العربي والإسلامي المنبثق بعد القرن السابع الميلادي، وأن التاريخ السابق ثانوي «جاهلي» بالنسبة للإسلاميين، وقطري وغير حدودي وغير عربي بالنسبة للقوميين.

بين هذه التيارات الرئيسية، هناك تيارات سمت نفسها بالتيارات القطرية، التي رفضت التاريخ العربي الإسلامي وتبنت تاريخ ما قبل الإسلامي «الوطني» الفرعونية المصرية والآشورية العراقية والفينيقية اللبنانية والسامية القومية السورية، وصولًا إلى القرطاجية والبربرية المغربيتين.

فبدل أن نكون «وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا» مع أننا أقرب إلى تحقيق الوحدة من عدة وجوه: الجغرافية واللغة والدين وغيرها من العوامل المساعدة على الوحدة والاندماج، أصبحنا كيانات ممزقة ومتفرقة بسبب انفصامنا في قراءتنا لتاريخنا وتراثنا الذي يعتبر سر قوة أي أمة.