آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

مصبٌّ مُخيفٌ «قصة تحمل شيئًا من الواقع»

ليلى الزاهر *

لايبرح الطفل حضن أبويه يستأنس بحضورهما، هما الأمان والملاذ. لذلك لابد أن يكاشفهما أسراره دون خوف، يصارحهما بأحداثه اليومية؛ لأنه يعلم أنهما واحة الأمان من جدب الصحراء ولا تطمئن نفسه إلا في دائرتها. هما قارب نجاة حينما يضلُّ وجهته؛ لذلك كان واجبًا على الوالدين كسر حاجز الخوف بينهما وبين أطفالهم في طور مبكر.

قصتي اليوم دفعت ثمن أحزانها طفلة بريئة لم تتجاوز الثالثة عشر من عمرها الورديّ.

سأرويها بشكل يُغاير واقعها قليلًا تحرزا على بعض المشاعر.

دقَّ جرس الحصة الأخيرة فأغلقت المدرسةُ أبوابها.

ركبتْ الحافلة متجهة لمنزلها وكان سيْرُ الحافلة يقتضي إيصالها لمنزلها آخر طالبة، ولكن الذئب الذي كان خلف مقود الحافلة غيّر وجهته ووصل بها إلى مكان مُخيف وللأسف تمّ له ما أراد بوحشيّة ضارية.

طفلة صغيرة لاتمتلك الخبرة في مواجهة هذا الحدث المفزع، أرعبها قصف الرعد وتهديده المُخيف إذا أخبرتَ أحدًا بما جرى، فعزمت ألّا تفتح فمها.

كانت كلماته البشعة كفيلةً بطوي هذه الصفحة رعبًا وخوفًا من القادم.

ولكن هيهات أن تطوى صفحة تلوثت بأيدٍ مُجرمة فقد ظهر جرمه للعيان وأصبحت الفتاة الطاهرة حاملة ذنبًا لم تقترفه.

وهنا بدأت مزالق الفزع، لاحظتْ أمها أنها تحمل جرمًا بين أحشائها يكبر شهرًا بعد شهرٍ فماكان منها إلّا أن أخبرت والد الفتاة، وتحت وطأة الضرب الذي تعرضت له من والدها وأخيها أخبرتهم بعمل ذلك الذئب البشريّ ولكن تأخر الوقت لمعاقبته فقد فرّ هاربًا.

بعد محاولات فاشلة لإجهاض ذلك الجنين قرر والد الفتاة أن ترحل ابنته من المنزل لمنزل بعيد مهجور يخصّ العائلة تعيش فيه بمفردها إلى أن تضع جنينها ثمّ يُنظر في أمرها مُجددا

حُزِمت حقائبها وتولت الأسرة تجهيز إمداد غذائي ضخم يكفيها وتمّ نقلها لمسكنها الجديد.

رحلت هذه الطفلة الصغيرة وهي خائفة تترقب أحداثًا غيبية وتلوذ بالفرار بفضيحتها التي لاذنب لها فيها. ربما لاتعرف عن مشاعر طفلة صغيرة تجلس بمفردها في مكان مهجور لايقصده أحد.

كيف وهبها الله الشجاعة؟

وكيف استطاعت أن تخلد بهدوء وسط ظلام ليلٍ مخيف صُبّتْ فيه جميع أصناف العذاب. تحرسها كلمات الله التي كانت ترددها، فتحيطها بسياج من الأمان، لم تفارق كتاب الله، وكانت تستمد العون من الله تعالى أن يُنجيها ويُعيد لباسها النقي لأنها ماكانت ترفض لباس العفاف غير أنّه أُخذ منها عنوة.

توالت الأيام تعقبها أشهر مخيفة والفتاة الصغيرة يكبر بطنها، كانت تبدو في التاسعة من عمرها، أصابها الهُزال، وضعُفت بنيتها

تعيش الخوف وسط الهجران والمرض والجوع والألم المضني، لكن رحمة الله وسِعت كل شيء وتسخيره جارٍ لعباده أينما كانوا.

وعلى إيقاع هروب شعاع الشمس تَلألأَتْ أفراج الله العليا من سمائه السابعة وأذنت ساعة انكشاف البلاء ليطرق طارق ليس بنجم ثاقب، لكنه شاب عشريني بعثه الفضول ليرى ذلك المنزل المهجور وما أدراك بتدبير المولى عزوجل!

لمح الفتاة من بعيد فتبادر لذهنه الاقتراب لكنه كان خائفا، اعتقد أنها ليست من الأنس، اقترب منها وهي ليست بأقل خوفا منه، قدّمت له عبارات الرجاء أن يخرج ويتركها بمفردها، ولكن بعد إصراره لمعرفة سبب تواجدها أخرجت جميع ما في جعبتها من سهام مؤلمة وقصّت حكايا الوجد والألم، وعدها الشاب بمساعدتها وأنها ستكون بخير وهي من الآن في عهدته.

أيامٌ تمضي وهو يتردد على منزلها المهجور، شفقته عليها اقترنت بالحب لتلك الفتاة المسكينة.

أومأت الأقدار أن يكفيك حزنا أيتها الطفلة المسكينة، واقترب موعد ولادتها وكان ذلك الشاب طوع أمرها. ساعدها بما أوتي من قوة وقف بجانبها، أدخلها المستشفى بمساعدة قريب له وقد شاءت الأقدار أن يكون طفلها في عداد الموتى.

أخرجها من المستشفى بعد أن تماثلت للشفاء وطلب منها أن تذهب لمنزل والدها وأن يكون برفقتها، في بداية الأمر رفضت لكنه أقنعها بأن الأمور سوف تسير بما يسرُّ خاطرها، رافقته وظلت في السيارة ودخل لمنزل والدها وأخبرهم بما صنع مع ابنتهم وأفصح عن رغبته في الزواج منها. وما أن سمع والدها حتى غمرته السعادة بفراق ابنته مجددا ونسيان الفضيحة التي عاشها مترقبًا الخلاص منها.

لا أعلم من المفاهيم الإنسانية ما يجعل أحدهم يحقد على أحد دون سبب مقنع فكيف بأبّ رحيم أخرج حب ابنته من قلبه.

وغاصت قدماه في وحل بغضها!

أخذ ذلك الشاب فتاتنا وسط احتفال بهيج واعتذر لها من غدر الزمان بها ومازالت وعوده قائمة، أكرمها، وأحسن وفادتها وعانقتها السعادة بجواره، كبرت بين أحضانه، وأحضان والدته وأنشأت أسرة، ظلّ الوفاء ملازما لها، أنجبت له فتاة جميلة تشبه والدها ومازال لحديث السعادة فصول لم تكتمل ولم يخمد ضجيجها بعد.

أصبح زوجها محاميا مشهورا وكرّس وقته في الدفاع عن المظلومين وإشهار العدالة من خلال رسالة سامية مؤمنًا بها.

إنّ أطفالنا أمانة بين أيدينا تحرسهم أنفاسُنا وتُضمد جراحهم أرواحنا. لنكن قريبين من الحدث، نلاحظ، نُحلل، نشارك في وضع الحلول دون تذمر.