آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 9:48 م

الناكثين

عبد الرزاق الكوي

قال الله عزوجل: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّما يَنْكِثُ عَلى نَفْسِهِ.

بويع الإمام علي بن أبي طالب في شهر ذي الحجة من سنة 35 للهجرة بعد إصرار وتدافع وتكرار الطلب من المهاجرين والانصار وبإجماع من أهل المدينة، ولم يكن الأمام راغبا للخلافة إلا أنهم حملوه على ذلك.

قال الإمام حين طلب منه المهاجرون والانصار المبايعة قال :

«دعوني والتمسو غيري، واعلمو أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزيرا خيرا لكم من أمير».

كانت هذه الكلمات المعبرة والصادقة بداية عهد إمام المتقين حيث بين فيها برنامجه العملي إذا وافق على تولي الخلافة، سوف يعمل بما يعلم وهي علوم رسول الله ﷺ حيث قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها». فقد أصاب الأمة الكثير من التغيرات والأحداث وكان لابد له من عمل جاد وعلم مبين ينتشلها مما وصلت له، فقد ظهرت المحسوبيات والبرجوازيات ولم يمضي على وفاة سيد المرسلين ﷺ طويلا، لعبت في الجسد الإسلامي فكانت لابد من منقذ ينتشل المجتمع ويبني الدولة على أساس العدل والمساوي بعيدا عن الفساد السياسي والاقتصادي الذي نخر المجتمع واقتتل فيه المسلمين وبدأت الفرقة تأخد مكانته في تفكيرهم.

يقول في خطبة له في ثاني أيَّام خلافته: «أيّما رجلٍ استجاب لله وللرسول، فصدّق ملَّتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا؛ فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده؛ فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسَّم بينكم بالسويّة، لا فضل فيه لأحد على أحد؛ وللمتقين عند الله غدا أحسن الجزاء.. وإذا كان غدا إن شاء الله فاغدوا علينا؛ فإن عندنا مالاً نقسِّمه فيكم. ولا يتخلّفن أحدٌ منكم؛ عربيّ ولا عجميّ، كان من أهل العطاء أو لم يكن؛ إلا حضر؛ إذا كان مسلماً حرّا»

وقال: «... فأمّا هذا الفيء فليس لأحدٍ على أحد فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا، فمن لم يرضَ فيتول كيف شاء، فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه»

طبيعة الانسان بشكل عام يخاف التغيير وبشكل خاص أصحاب المصالح والمكتسبات يحاربون بما لديهم من قوة كل بادرة إصلاح وتغير واقع المجتمع إلى مجتمع نظيف بعيدا عن المحسوبيات والمصالح الخاصة، فيرفضون الإصلاح بطرق شتى سواء بطريقة حق يراد بها باطل أو إشعال فتن وصولا إلى حرب تسيل فيها الدماء وضرب البنية التحتية للدولة والمجتمع، من اجل المحافظة على ما اخذوه من مال غيرهم بشكل غير مشروع، فقد برزت هذه الفئة معلنة الطلب من الامام اعطاءهم مكتسبات لما لهم من مكان اكثر من غيرهم وتسليمهم ولايات دول إسلامية، وعند رفض الامام علي كل المطالب الغير مشروعة والتي لا تمت للإسلام لا من قريب ولا بعيد بدأت بوادر النكوث وخيوط المؤامرة تظهر وتتساقط الأقنعة وتنكشف الوجوه الظالمة والانتهازية للعيان، مشكلين جبهة من اجل محاربة الإصلاح وإعادة المجتمع إلى جادة الطريق التي يقودها امام المتقين علي بن ابي طالب ، الذي لم يكن همه السلطة فهو بما أعطاه الله تعالى وكرمه وشهادة النبي صلى الله عليه واله هو ما يعتز ويفتخر به وبما قدمه في سبيل الله تعالى خير شاهد، فالإمام اكبر ان يغتر بسلطة، فقد أتت اليه صاغرة وهو القائل انها «عفطة عنز». لم تأخذه في الله تعالى لومة لائم ولا تكتلات من هنا وهناك، فكان في غاية الوضوح والتسليم لم يرضى بأنصاف الحلول ولا تهمه الألاعيب السياسية واالنفوذ الاقتصادي ولا ضغط القوة ولا المهادنة والنفعية، يخطو على درب الرسول صلى الله عليه واله، الذي لم يهادن يوما ما مع ما تعرض له من اذى وظلم وجبروت كفار قريش، واليوم تبدأ مسيرة الامام علي وتبدأ من حوله الفتن والمؤمرات من اجل اسكات صوت الحق ولكن هيهات والحاكم امير المؤمنين، بدأت خيوط الغدر بنكث بيعة امير المؤمنين الذي اخدت في المدينة المنورة على رؤوس الإشهاد من الصحابة والمسلمين، في بيعة اتجه فيها المهاجرين والنصار الى بيت الامام من اجل ان يقبل الخلافة وينقد الأمة مما وصلت له، فخاب أمل البعض بالخلافة او الولاية او في الحصول على المزايا والمكتسبات دون غيرهم، وهم يعرفون انه الرجل الذي لا يهادن في حق من حقوق الله عز وجل وان الجميع سواسية لديه. فلم يكن هم الناكثين لخلافة الامام كم من الدماء التي سوف تسيل وكم سوف تتعرض الأمة للضياع والمجتمع للخراب، فحب الدنيا اعمى اعينهم وأمات قلوبهم فالجشع كان الهم الأكبر لهم وليس الحفاظ على سلامة المجتمع وإصلاحه.

توجه الامام لبناء مجتمع إسلامي والعمل على استرداد ما اخد من أموال المسلمين لمصالح شخصية وعلى غير وجه حق، وبدأه في سياسة تعيين الولاة على مبدأ الكفاءة والإيمان والأمانة والاستقامة وصلاح السيرة وحسن السمعه ومستمد ذلك كله من قوله تعالى:

«وما كنت متخد المضلين عضدا».

فبعد أربعة اشهر من تولي الامام علي مقاليد الخلافة بدأت تظهر بوضوح خيوط المؤامرة وتتكامل أركانها وتبدأ مشروعها فكانت البداية بعد يأسهم من الحصول على امتيازات ومتطلبات غير مشروعة ولا تخدم المصلحة العامة فاستأدنوا للخروج للعمرة فقال الامام وهو ينظر في وجوهم لم تخرجوا للعمرة بل للغدرة، ولو غير الامام ما تركهم وهو يعرف ما يخططون له، خرجوا من المدينة المنورة متجهين الى مكة المكرمة وهناك تم تشكل الحلف الظالم ليس للامام علي بل للإسلام والمسلمين، فكانت المعركة الأولى التي اجبر الامام خوض غمارها لتشغله عن القيام برسالته نحو الإصلاح، حيث حدثت الحرب المفروضة في شهر جمادى الاول وقيل في جمادى الثاني من سنة 36 هجري.

حينما علم الامام خروج الناكثين من مكة المكرمة نحو البصرة، من اجل وأد الفتنة خرج الامام على رجاء اللحاق بهم وأن يدركهم قبل وصولهم البصرة من اجل لقاءهم ونصحهم وحقن لدماء المسلمين وخرج معه 700 راكب منهم 409 من المهاجرين والانصار، منهم 70 بدريا، كما التحق جمعا من طي بلغوا 600 راكب ومن الكوفة ما يقارب نحو 6500، وصل الناكثين البصرة قبل لقاء الامام بهم حيث قاموا بجريمتهم الاولى ففي ربيع الثاني من سنة 36، قام الناكثين بقتل اتباع امير المؤمنين علي في البصرة، جريمة نكراء خارجة عن كل الأعراف والمبادئ، من اجل زعزعة اركان الدولة الاسلامية بقيادة الامام .

رغم ذلك عمل الامام عند وصوله البصرة للسلم مؤثرا الصلح وحقن للدماء المسلمين استعمل جميع وسائل الإقناع، حيث ارسل لهم أحد أصحابه وبرز بين الصفين حاملا بين يديه القران الكريم يدعوهم للعمل بما فيه والرجوع إليه، فرفع كتاب الله داعيا للسلم فأتته السهام وهو حامل القران الكريم التي لم يحترموا قدسيته فسقط شهيدا، ورغم كل ذلك استمر الامام في محاولاته حيث خرج لهم الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنه، ناصحا فرشق بالنيل حتى لا يكمل كلامه ويفضح الناكثين وإتمام خطتهم، وتكلم الامام أمير المؤمنين لكن استحوذ الشيطان على قلوبهم، فخالفوا الحق والحاكم الشرعي، فكانت فتنتهم من أشد ما تعرضت له آلامة من مخاطر سالت فيها انهر من الدم وراح على اثرها الآلاف من المسلمين كلهم في ارقاب الناكثين، انفس لو بقيت لخدمت دولة الامام وحارب بها أعداء الاسلام بدلا من ان يقتل المسلم اخاه المسلم والمستفيد القوى المتربصة حقدا على الاسلام.

قال أمير المؤمنين علي :

«سأمسك الأمر ما استمسك، وإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي».

فعمل لمدة ثلاث ايام ناصحا محاولا وأد الفتنة ورجوعهم الى جادة الحق، وتحكيم العقل ترغيبا وترهيبا من اجل حقن الدماء، فكان خيارهم الحرب، حيث انتصر الامام علي وقتل الناكثين وفقدت الأمة نخبة من ابنائها من الصحابة والتابعين وجمعا من المسلمين وعما الحزن في البصرة والكوفة وأقطار من المدن والأنحاء الاسلامية. حيث مزق الناكثين صفوف المسلمين، وجعلهم شيعا، وأحدثوا بفعلتهم فجوة واسعة في جدار المجتمع الاسلامي، بسبب احقاد وضغائن ومصالح دنيوية خاصة.

عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه واله يقول لعلي بن ابي طالب : تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بالطرقات والنهرونات وبالشعفات قال ابو أيوب يا رسول الله مع من نقاتل هؤلاء الأقوام قال مع علي بن أبي طالب.

عفى صاحب القلب العظيم الامام علي عن من قاتله كما عفى الرسول صلى الله عليه واله عندما فتح مكة عن الطلقاء، وقبل خروجه من البصرة متوجها إلى الكوفة خطب في اهل البصرة فقال: ما تنقمون علي؟ يا أهل البصرة، وأشار إلى قميصه وردائه فقال: والله، إنها لمن غزل اهلي، ما تنقمون مني يا أهل البصرة؟ وأشار إلى صرة في يده فيها نفقته، فقال: والله ما هي إلا من غلتي بالمدينة، فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر مما ترون فأنا عند الله من الخائنين.

المشكلة الخطرة المتولدة من هذه المعركة لا زال البعض يجد المبررات لمن تسببوا بسفك دماء الاف من المسلمين وجعل انتقادهم مر المحرمات ووضعهم في المكانة التي يستحقونها، حيث ان فعلتهم لها اثارها في المجتمعات الاسلامية حتى يومنا هذا، ان يستخدم كلمة حق يراد بها باطل تنتهي بدمار وقتل وخراب المجتمعات.

فاليوم عالمنا الاسلامي بشكل عام والعراق بشكل خاص، بلد الامام علي والأئمة يمر بحالة عدم استقرار سياسي وتدهور اقتصادي بسبب الفساد المستشري في البلد والتدخلات الخارجية مما خلق جو من التوتر والانفلات الأمني، حيث خرج على اثرها الشباب العراقي للساحات مطالبا بالإصلاح ومكافحة الفساد ومعالجة الفقر في بلد تعد من أغنى الدول لوجود النفط والزراعة والمياه والعقول المتعلمة من اصحاب الكفاءات العالية ووجود المرجعيات الكرام ودورهم الفعال في استقرار وحفظ العراق.

المظاهرات والمسيرات السلمية المشروعة والمكفولة من لدن الدستور العراقي والمدعومة من كافة الأطراف العراقية والمرجعيات الدينية لانها حق مشروع وورقة ضغط فاعلة من اجل واقع افضل للعراق وشعبه، هذه المظاهرات اليوم تحرف عن مسارها بفضل الاعلام المضلل من الخارج والداخل وتصبح هذه التظاهرات شوكة في الجسد العراقي بسبب وقوف أطراف داخلية وخارجيه لا تريد الخير لهذا الشعب والأمان لهذا البلد، فالفاسدين في الداخل ليس من مصلحتهم كف أيديهم السارقة قوت الشعب العراقي وان تصل لهم أيدي العدالة، والبعض مرتبط بأجندات خارجية لا تهمه مصلحة العراق والشعب العراقي، وزد على ذلك من لا ترضيه السياسة العراقية وتوجهاتها الإقليمية والعالمية فهم يريدون عراق تابع يملى عليه ما يريدون ويخططون ويرسمون له نظام الحكم وعلاقاته مع البلدان الاخرى في تدخل سافر لايرضاه الشعب العراقي اليوم ولهذا نلاحظ المؤامرة تلو الاخرى من اجل ان لا يكون عراق قوي ومستقل وفاعل وصاحب سيادة فاعله في مجتمعه ومحيطه.

فالناكثين اليوم يأخذون العراق الى المجهول برضاهم ان يكونوا اداة لضرب البني التحتية للعراق وهم يحرقون الممتلكات ويتعدون على المقرات الحزبية والدولية ويخربون البلد ووصل الحال للقتل والسحل وتعليق الاجساد في ظاهرة عانى منها الشعب العراقي وهي من افعال داعش واخلاق القاعدة الذين لم يتورعون عن القيام بأي منكر وجريمة، فالخاسر اليوم بهذه الأفعال الخارجة عن القانون والخلق هو العراق والشعب المظلوم على مر التاريخ، فالدماء البريئة تسيل من الشعب العراقي سابقا وحتى يومنا هذا، بالتأكيد لم تأتي من فراغ بل مؤامرات استخباراتية وتدخلات سافرة من اجل عراق ضعيف وتابع.

فالجيل الحالي الذي نزل للساحات شباب في عمر الزهور في العشرينيات من أعمارهم، نشأو دون ذكريات حزينة عاشها العراق سابقا فمع كل الأحداث والظلامات والمؤمرات والفتن والضغوطات الخارجية فالعراق في نعمة على الشعب المحافظة على هذه المكتسبات من الزوال وليأخدوا العبر من الأجيال السابقة وماعانوه من ظلم ومقابر جماعية واستخدام الأسلحة الكيميائية ضد الشعب وتجارب السجون الرهيبة.

العالم اليوم يئن من المشاكل الاقتصادية وهم في أوضاع مستقرة سياسيا، والعراق فضلا عن الحالة الاقتصادية المتردية والفساد المستشري يمر بمشاكل سياسية وتدخلات خارجية مستمرة وعدم الاتفاق بين الكتل السياسية وبعضها الكل يريد الوصول وبالتالي عمل تجمع من الأقرباء بدل من وصول الكفاءات، والعراق لا تنقصه تلك الكفاءات إذا أعطيت الفرصة وأبعد الفاسدين والتابعين والمتربصين.

فالمؤامرات لن تتوقف ضد هذا البلد لمعرفتهم ماذا يعني عراق قوي ومستقل، فقد تم غزو العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل، فكان الغزو الخارج عن إطار مجلس الأمن الدولي، وبعد تشكيل لجان لأسباب هذا الغزو، كانت النتيجة إن الأوساط الاستخباراتية كانت مخطئة تماما في كل تقديراتها التي سبقت الحرب حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، وكان الهدف هو القضاء على الجيش العراقي تماما، وبعد طرد المحتل من قبل القوى العراقية، خرجوا من الباب ودخلوا من النافدة، فكان داعش أرادوا به تفكيك العراق فقام كما شاهد العالم بأبشع الجرائم بحق الشعب العراقي، واليوم تستخدم المظاهرات السلمية وحرفها عن مسارها لتحقق تطلعاتهم في عراق ضعيف وتابع يتحكمون في رسم سياسته الخارجية وعلاقاته الدولية ويتدخلون بشؤونه الداخلية بشتى الوسائل مهما سالت من دماء بريئة، ستبقى هذه الدماء وصمة عار لمرتكبيها، وخاتمة مشرفة وتاج للأرواح الطاهرة على خطى أهل البيت .