آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

سلطان الأباريق

وسيمة عبيدي * صحيفة اليوم

يحكى أن قديماً كان يعين رجلٌ في كل حمام عمومي، وظيفته الإشراف على الأباريق وملئها بالماء كلما فَضت، بحيث إذا أتى أي شخص فإنه يأخذ أحد الأباريق ويقضي حاجته ثم يرجع الإبريق إلى صاحبنا الذي يقوم بإعادة ملئه للشخص التالي وهكذا. في إحدى المرات جاء رجل وكان مستعجلاً، فخطف أحد هذه الأباريق بسرعة وانطلق نحو دورة المياه، فصرخ به مسؤول الأباريق بقوة آمراً إياه بالعودة. رجع الرجل على مضض فأمره مسؤول الأباريق بأن يترك الإبريق الذي في يده ويأخذ إبريقا آخر بجانبه، فأخذه الرجل ومضى لقضاء حاجته وحين عاد لكي يسلم الإبريق سأل مسؤول الأباريق: لماذا أمرتني بالعودة وأخذ إبريق آخر مع أنه لا فرق بينهما؟ فقال مسؤول الأباريق بتعجب: إذن ما وظيفتي أنا هنا؟.

يعيش بيننا الكثير من سلاطين الأباريق الذين يشغلون وظائف بسيطة لا تستدعي التعقيد، لكنهم يستمتعون بالأمر والنهي وتعطيل مصالح البشر. ونجد هؤلاء السلاطين في كل مكان بدءا من المدارس للمستشفيات والوزارات والمطارات والمؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص وحتى في الشوارع!.

وما يدفع سلطان الأباريق ذاك للتصرف بهذه الطريقة إلا عقدة الإحساس بالنقص أو الدونية التي يعاني منها، وحاجته للشعور بأهميته في المجتمع، وذلك بتكديس معاملات الناس لديه إذا كان موظفا بالرغم من أنها لا تحتاج إلا لمراجعة سريعة أو مجرد نظرة خاطفة منه وختم فقط، لكنه بدل ذلك يضعها جانباً ويأمر صاحب المعاملة المسكين بأن يراجعه لاحقاً. ونجد سلطان الأباريق أحياناً حارسا لبوابة يمنع الناس من المرور بدون أي سبب يذكر ما عدا إشباع رغبته في الإحساس بالأهمية.

يُذكرني سلطان الأباريق بفلم‪The experiment ‬ الذي يتحدث عن تجربة نفسية أجريت لمدة أسبوعين، لدراسة تأثير البيئة المحيطة كالسجن على سلوك الإنسان، وكيفية تفاعُله مع المُغريات كحصوله على السلطة المطلقة على بعض البشر من حوله، وهي قصة حقيقية تُحاكي اختبار سجن ستانفورد، حيث اختير 26 رجلا مختلفين أخلاقياً وفكرياً ودينياً والذين لم يدخلوا السجن مسبقاً للعب أدوار حراس وسجناء، مقابل مبلغ نقدي لا يُدفع لهم إلا في نهاية الأسبوعين. بدأت التجربة بتقديم المشاركين أولاً، ومن ثم توزيع الأدوار عليهم بشكل عشوائي، وبمجرد بدء التجربة صدق المشاركون أدوارهم كحراس مالكين لسُلطة الضبط، أو سجناء يواجهون حصصهم اليومية من الإذلال وأنواع الإهانات، ومن أول يوم في التجربة عاقب الحراس المساجين على أثر غلطة بسيطة وبدأوا يشعرون بنشوة السُلطة. وفي اليوم الثاني اعتدى السُجناء على الحراس بسبب سوء المعاملة، وإجبارهم على الأكل بالرغم من سوء الطعام، وتوالت الأحداث لكن سرعان ما تم إنهاء التجربة في اليوم السادس، وذلك بسبب دوامة العنف التي بدأت بينهم وانتهت بإصابات خطيرة لكلا الطرفين وبمقتل أحد السجناء.

كثيرون هم من يشعرون بالدُونية بسبب قلة الإنجازات في حياتهم، فينعكس ذلك على تعاملاتهم. إن شعور الإنسان بقيمته وأهميته في مجتمعه وبين أهله لهو شيء مهم جداً، لكن لا يكون ذلك بتعطيل المصالح للفت الانتباه إنما يكون بتَمَكن الإنسان من أن يكون فردا فاعلا في مجتمعه، ممارسا لعمله بكل إخلاص ووفاء، متفهما لحاجات الناس ومجتهدا في مساعدتهم لقضاء تلك الحاجات. ‬