آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 9:59 م

‎إلى الصديق الخارج من طفولته 7

أثير السادة *

مثقلاً بالأمل، أقف على حدود شاطئ الأمس، حيث زرقة الماء تغسل بقايا الظنون التي تركناها كفيض من هواجس لا تنام، أتفقد خطواتك الأخيرة وأنت تهيئ الأفق للرحيل، طيور صغيرة، وأحجار مختلفة الحجم، ومراكب بلا حراك، وحدها كانت تصغي إلى صخب أفكارك في ذلك المكان، تحاور عينيك التي كانت ترصد كل شيء بنظراتها، لا شيء يحول دون سفرها في امتداد الأفق، عالياً تحلق في سماء أحلامك، تتنشق هواء الأمنيات التي تركت ظلالها على تخوم هذا الشاطئ.

أعوام مرت كان البحر فيها يأتي مفعما برائحة ذكرياتك، في الجزر يشف البحر عن تلك الحصيات الصغيرة، وخطو الطيور التي تنادمه ساعة الفجر، وغيابك الذي يسكن كل الفصول، وفي المد مد يأخذنا إلى الطفولة، وألفة السفن المائجة في عباب البحر، وغموض الأمواج التي تنكسر على صخور الشواطئ.. مد تنقلب فيه صورة البحر، ومعه تنقلب صفحة الخواطر، وما اذخرناه من عواطف في يوميات الانتظار.

بينك وبين البحر غزل قديم، ورسائل كالأناشيد، بها الكثير من فرط الولع للماء في ثنايا روحك، تائه في مرايا ألغازه تغني، تشحذ همته بأنفاسك كبحار يخشى ضياع الجهات في مسارب الريح، وبينك وبينه وحشة التآويل، ساعة لا تستطيع أن تبوح له بسر، أو تروي له حزناً مستطيراً، ساعة تدرك أن سعته هي قيدك، وأن امتداده ليس سوى عنوانا لعزلتك.

لم يعد البحر نديمك الآن، لكن صوته يروي بعضاً من حكاياتك الطرية، يروي للحاضر عن أحلام أمسك، وأنت تشتهي التحليق كالنوارس، أمشي على أطرافه كمن يمشي على أطراف مشاعرك وخواطرك، ثمة أسراب من الطيور المهاجرة تسبح في جنباته، لا نعرف من أين جاءت، لكننا نعرف بأنها ربيبة السفر، أجنحتها معجونة بشهوة الترحال، تهب المكان ألوانها وأشكالها، قبل أن ان يجتاحها الحنين فتعود ثانية إلى أوطانها.. لا تعبأ بالمسافات وهي تعبر الفضاءات الواسعة، غير أنها لا تغلق نوافذ القلب عن طرقات الوطن، فيها ما لا يحصى من بقايا الترحال، وفي ذات الوقت الكثير الكثير من أشواق العودة لمهبط القلب.

هناك تساءلت عن تآويل غيابك، عن نجمك المفقود في وحشة الليل، عن مسافر لا تعرفه صالة القدوم، وعن قصيدة ما انكفأت تبحث عن مطلعها، تساءلت عن رقة الماء وقسوته في آن، صفائه وغموضه، وعن تلك الطيور التي نسيت طريقها إلى البيت، وعن الأشواق التي لطالما ابتلت برذاذ الذكريات، دون أن تحظى بظلال العابرين من ثنايا القلب.