آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

المُثقّف الساخِط

محمد عبد الله العيسى * صحيفة الرأي السعودي

أحد الزملاء الأعزاء القدامى غضب مِنّي فجأةً في أحد الأيام ثم ساءت علاقتُه معي تدريجيًا إلى حدّ قطيعتي والإساءة لي، ولعلّكم تتساءلون الآن عن جريمتي التي ارتكبتُها في حقّه والتي دفعته لكل هذا، سأخبركم عن السبب وإن كنتُ أشك كثيرًا بأنكم ستصدّقونه.

بدأت قصة غضبه عليّ عندما غادر شقته وانتقل إلى منزله الجديد بينما بقيتُ أنا في شقتّي حيث لم أستطع أن أبني لي منزلًا مثله، ثم ازداد غضبه منّي عندما تمّت ترقيتُه وانتقالُه إلى قسمٍ آخر بينما بقيتُ أنا على مرتبتي في القسم القديم الذي كنا نعمل فيه معًا.

وهكذا، فقد كان سخطُه عليّ يزداد مع كل ترقية في حياته لا يحدث لي مثلها، ولا أدري، هل من العقل أن يتوقّع هذا الزميل أن تتزامن حركاتنا وترقياتنا في الحياة؟ وهل من الإنصاف أن يجعل مثل هذا التزامن والتوافق العجيب الغريب شرطًا لسلامة علاقتنا واستمرار المودّة بيننا؟.

لا تظلموا زميلي بإطلاق بعض الأحكام التي أوشكت أن تجهز الآن في عقولكم، لأن هذا الزميل لا وجود له في هذه الحياة ولأن هذه القصة من نسج الخيال ولم تقع على أرض الواقع، ولكن دعوني أخبركم عن الكثيرين من الناس الحقيقيين الذين يعيشون بيننا والذين يتصرّفون مثل هذا الزميل الوهمي.

المُثقّف يعرف جيّدًا أنه خلال رحلته المعرفية يترقّى باستمرار في سلّم الوعي مع قراءة كل كتابٍ جديد ومع سماع كل محاضرةٍ جديدة ومع خوض كلّ تجربة حياتية جديدة، ويعلم جيّدًا أنه اليوم أصبح إنسانًا مختلفًا عمّا كان عليه يوم أمس وأنه في الغد لن يكون هو الإنسان ذاته اليوم، وأن العروج في سماء الوعي لا نهاية ولا سقف له.

لماذا يشعرُ بعض المثقفين في أنفسهم بالنقمة والسخط والازدراء على أقرانهم في الحياة وعلى مجتمعاتهم؟ ولماذا يقومون بتعييرهم بالتخلّف كلما شعروا بتفوقهم النسبي في الوعي عليهم؟ هل من الإنصاف أو من المنطق أن يتوقع مثقفٌّ ما أن توجد له الصدفة قرينًا آخر في الوعي تتزامن خطوات ارتقائه في سلم الوعي والمعرفة مع خطواته؟، ناهيك أن يتوقّع مثل هذا المثقف أن تستنسخ له الصدفة مجتمعًا كاملًا تتزامن خطواته مع خطواته.

لن يأتي يومٌ تتساوى فيه في مجتمعٍ ما مستوياتُ وعي البشر أو تتحدّ فيه آراؤهم «ولا يزالون مختلفين»، وعشمنا هو أن المثقف الواعي يدرك هذه الحقيقة جيدًا، وأن يكون لذلك رؤوفًا بمن يظن أنه أصبح أكثر وعيًا منهم «زملائه القدامى في الجهل»، لا ناقمًا ولا قاسيًا عليهم، وأن يعذر جهلّهم الذي كان يتصف به عمّا قريب، وأن يركّز على الغاية من الوعي التي هي الإصلاح والإعمار والتنمية في المجتمع والأرض بدلًا من أن يمارس مثل هذا التنمّر الفكري والنقد اللاذع والجارح الذي قد يحدث شروخًا في علاقات أبناء المجتمع الواحد ويهدم أمنهم ويمزّق نسيجهم الاجتماعي.

لا يجدر بالواعي الحقيقي أن يحرفه اهتمامه بالوسيلة «الوعي» عن الغاية «الإصلاح» إلى الدرجة التي يقوم فيها بنقض أسمى غاية الوعي وأغراضه.

وفي المقابل، ينبغي على كلّ إنسانٍ أن يدرك أن الوعيَ هو رحلةٌ وليس محطةً، ولذلك فعليه ألا يمارس الكراهية والإقصاء ضدّ من يظنون أنهم أصبحوا أكثر وعيًا منه ممّن كانوا يشاركونه في الرأي في يومٍ ما ثم صرّحوا بأنه أصبح لهم رأيٌ آخر مختلف، وأن ينصت لرأيهم وأن يفكّر فيه، فلعلّ العلّة في رأيه هو وفي وعيه الذي يحتاج لترقية.

وباختصارٍ شديد، فإن الأكثر وعيًا وثقافةً هو ليس من يظن أنه كذلك ويضيق ذرعًا بالآخر - الأقل وعيًا في نظره - بل هو الأكثر قدرةً على فهم الآخر واستيعابه والمشي معه جنبًا إلى جنب في رحلة صيانة مكاسب الإنسانية والمجتمع وتنميتها.

توستماستر متميز وبطل الخطابة الفكاهية في الخليج والسعودية 5 مرات