آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 12:34 ص

حياةُ الطير وموت الحمار

على غير ما جرت عليهِ العادة كلَّ صباح، كان صباح الأمسِ واليوم، وربما الغد وما بعده أقربَ للموتِ شبراً منهُ للحياة ذراع. شوارعُ وطرقات كانت تزدحم بالعابرينَ نحو مناطقِ أعمالهم ومدارسهم ومشاغلهم بدت أكثرَ فراغاً وبطأً في الحركة. ومع كل تغيرٍ في نمط العيش تولد فرصة للتفكيرِ في من خلق الحياةَ، كيف يتصرف فيها! مخلوقاتٌ صغيرةٌ أحقر من أن تراها أعين البشر ومجاهرهم تسلب من العالمِ الراحة، بل تغير مظاهرَ الحياة كلها أينما حلت.

تذكر الكتبُ أن إبراهيمَ مرّ يوماً على ساحلِ البحرِ فرأى جيفةً مرميّةً على الساحل نصفها في الماءِ ونصفها على الأرضِ تأكل منها طيورُ وحيواناتُ البرِّ والبحر من الجانبين وتتنازع أحياناً فيما بينها على الجيفة، عند رؤية إبراهيم هذا المشهد خطرت في ذهنهِ مسألة يودّ الجميع لو عرفوا جوابها بالتفصيل، وهي كيفيّة عودة الأمواتِ إلى الحياة مرّة اُخرى، ففكّر وتأمّلَ في نفسه أنّه لو حصلَ مثل هذا الحادث لبدنِ الإنسان وأصبحَ طعاماً لحيواناتٍ كثيرة، وكان بالتالي جزءً من بدنِ تلك الحيوانات، فكيف يحصل البعث ويعود ذلك الجسدُ الإنساني نفسه إلى الحياة؟ فخاطب إبراهيمُ ربّه وقال: «ربّ أرني كيف تحيي الموتى». فأجابه اللهُ تعالى: أوَلم تؤمن بالمعاد؟ فقال: بلى ولكن ليطمئّنَ قلبي. فأمره اللهُ أن يأخذَ أربعةَ طيورٍ ويذبحها ويخلطَ لحمها، ثمّ يقسّمها عدّةَ أقسام ويضع على كلّ جبلٍ قسماً منها، ثمّ يدعو الطيورَ إليه، وعندئذٍ سوفَ يرى مشهدَ يومِ البعث، فأمتثلَ إبراهيمُ للأمر، ويا لروعة المشهد، أجزاء الطيورِ تتجمّع وتأتيه من مختلفِ النقاط وقد عادت إليها الحياة!

حوادث ومشاهد الحياة ترينا كل حين دون شك أنّ الله تعالى حاكمٌ على قوانينِ الطبيعة وليس محكوماً لها، فعلى هذا لا يكون من العسير أن تعودَ الطيورُ حيةً أو أن جرثومةً صغيرةً تسلب من أعظمِ مخلوقٍ وأعقل مخلوقٍ راحته وتجبره أن يتقهقرَ ويختبأ وراءَ الجدران. اليوم كان الطريق خالياً وغداً تعود إليه الحياة ويطمئن الإنسانُ أن من خلقَ الحياةَ هو من يحكمها ويتصرف فيها، ويقلبهَا كيف يشاء.

سافرَ عزير على حمارهِ ومعه طعامٌ وشراب، فمرّ بقرية قد تهدّمت وتحوّلت إلى أنقاضٍ تتخلّلها عظامُ أهاليها النخرة. وإذ رأى هذا المشهدَ المخيف سألَ: كيف يقدر اللهُ على إحياءِ هؤلاء الأموات؟ عند ذلك أماته اللهُ مدةَ مائةَ سنة، ثمّ أحياهُ مرّة اُخرى وسأله: كم تظنّ أنّك بقيتَ في هذهِ الصحراء؟ فقال وهو يظن أنّه بقيَ سويعات: يوماً أو أقل، فخاطبه اللهُ بقوله: بل بقيتَ هنا مائةَ سنة، انظر كيف أنّ طعامكَ وشرابكَ طوالَ هذه المدّة لم يصبه أي تغيّر بإذن الله. ولكي تؤمن بأنك قد أمضيتَ مائةَ سنة كاملة هنا انظر إلى حماركَ الذي تلاشى ولم يبق منه شيء بموجبِ نواميسِ الطبيعة، وبقي طعامكَ وشرابك، ثمّ انظر كيف إنّنا نجمع أعضاءه ونحييهِ مرّةً اُخرى. رأى عزيرٌ كلَّ هذه الأُمور أمامه قال: «أعلم أنّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قدير»، وأنا الآن على يقين بعد أن رأيت البعث حاضراً أمامي!

هكذا تبدو وتتقلب الحقائق بين حلاوةِ الحياةِ وصخبها وبينَ مرارةِ الموتِ وسكونه!

مستشار أعلى هندسة بترول