آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 9:00 م

«كورونا» تفضح هشاشتنا

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

أنهيتُ قبل قليل قراءة رواية «الطاعون» لألبير كامو، ربما هي المرة الثالثة التي أقرأ فيها هذه الرواية. هذه المرّة دفعني الحذر من وباء كورونا إلى أن أعيد قراءة هذه الرواية بالتحديد. شاهدتُ كذلك فيلم «عدوى Contagion» كنتُ أحاول أن أفهم كيف يعيد الوباء صياغة سلوك الناس وتغيير نظامهم الاجتماعي.

أول ما يمكن أن نتعلمه أن العالم الحديث مهما امتلك من قوة وحضارة وتقنية فهو «هشّ» وضعيف أمام فيروس مجهول يمكنه أن يخترق الحدود، ويلغي سيادة الدول، ويفرض على الكرة الأرضية برمتها إجراءات أقسى من الأحكام العرفية؛ العزل والحصار وتقطيع الأوصال ومنع التواصل... بل يمكنه أن يثير الخوف والهلع على نحو يهدد بانهيار كل الأنظمة المتينة والصارمة التي بناها الإنسان القوي؛ كالنظام الاقتصادي، والتجاري، والصحي، حتى الأمني.

حسب الفيلم، فإنه حين يسطو الوباء، تتحول الجموع المذعورة إلى قوة كاسحة تدمر كل ما شيدته الحضارة الإنسانية، تجتاح الأسواق، وتقتحم المتاجر، والبيوت، كل واحد يسعى للنجاة بنفسه... ما نعتقده نظاماً أخلاقياً لا يصمد أمام جموع الخائفين من الموت...!

هذا هو الدرس الثاني، أن هذا العالم، مهما أظهر من صراعات وعداوات وانقسام وتفشي للكراهيات، فهو مرتبط ومتلاصق وملتحم بشكل يجعل مصيره واحداً. لا يمكن للفرد أن ينجو بنفسه. إنهم يسكنون قرية واحدة بالفعل... فالكلّ يعتمد على الآخر. ليس فقط من أجل تشييد نظام الرفاهية وتبادل الخدمات، بل من أجل النجاة من الوباء... من الهلاك...!

الشعور بالخوف من الوباء، يستثير مشاعر متباينة، أكثرها شيوعاً الأنانية والفردية والحذر من الآخرين، بل شاهدنا من يستغل الوباء لاستظهار مشاهر الكراهية والخصومة والأحقاد وتصفية الحسابات، لكن أيضاً يستخرج هذا الخطر من بعض الناس أجمل وأفضل ما في نفوسهم، وهو العطاء، والتضحية، والشعور بالمصير المشترك، في رواية «الطاعون» يمكننا أن نراهن على أولئك الشباب الذين أشبعوا هذا المعنى ثراءً وعطاءً.

الجموع اليائسة تفتقد شعور بعضها ببعض، «ينبغي أن نعترف بأن الطاعون قد انتزع من الجميع القدرة على الحبّ، بل حتى على الصداقة. ذلك أن الحبّ يتطلب شيئاً من مستقبل، ولم يكن باقياً لنا بعدُ إلا لحظات» «الرواية ص 182»

الخوف يشل التفكير... أعرف شاباً من آخر العالم، نيوزلندا، أرسلته الجامعة لقضاء جزء من سنته الأخيرة في دراسة الطب إلى جزيرة مالطا، ضمن برنامج تطبيقي، لكن «كورونا» سبقته إلى هناك، فتّم إيقاف برنامجه، وكان عليه العودة إلى الديار. في الشارع أثار استغرابه أن الأعين كانت تحدق فيه متوجسة ومرتابة، لم يكن يملك تفسيراً، لكنه انتبه إلى أنه كان يعتمر قبعة على رأسه كُتب فوقها «روما»، حين دفعه رجل بقوة، وهو يقول؛ عدّ إلى إيطاليا ولا تنشر الوباء في أرضنا.

رمى القبعة في أقرب سلة مهملات، وركب الطائرة عائداً إلى بلاده، لكن رحلته توقفت في مطار هيثرو بلندن، وهناك اشترى قبعة تحمل شعار نادي «أرسنال» الإنجليزي، وحين خرج من المقهى في المطار، التفت إليه أحدهم: «يا لك من فأل سيئ... لقد أصيب مدرب أرسنال بفيروس كورونا»! عاد إلى نيوزلندا محبطاً، لكن السلطات الصحية هناك طلبت منه الالتزام بالحجر الصحي الاحتياطي في أحد الفنادق لمدة أسبوعين.

في عرضها لرواية الطاعون، تقول زميلتنا في هذه الصفحة، ندى حطيط، إن «هذه الرواية، كما كل عمل عظيم في دنيا الأدب تتجاوز غاية كاتبها المباشرة وتقدّم للأجيال قراءات مفتوحة على مستويات مجازية متعددة عن كل طاعون ممكن؛ الثّقافة المنحطّة، أو الأفكار الفاشيّة، أو الخزعبلات الدينيّة، حتى الرأسماليّة المتوحشة».

في رواية «الطاعون» لألبير كامو تقول النهاية: «إن قصيمة الطاعون لا تموت ولا تختفي، وإنها تستطيع أن تظل عشرات السنوات نائمة في الأثاث والملابس، وإنها تترقب بصبر في الغرف والأقبية والمحافل والمناديل والأوراق التي لا حاجة لها، وإن يوماً قد يأتي يوقظ فيه الطاعون جرذانه، مصيبة ودرساً لهم، ويرسلها تموت في مدينة سعيدة».