آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 4:24 م

المعطف - نقولاي غوغول «1/2»

أمين محمد الصفار *

جذبني في الرواية التي نصحني احد الأصدقاء بقرأتها تلك التفاصيل الشاردة التي اقتنصها الروائي نقولاي غوغول وضمها في روايته، وهي على كثرتها في الرواية إلا أن الدقة في التفصيل هي التي تجعلك تسمع أصوات الاحداث واصوات أبطالها وتتنفس الروائح المختلفة في ازقة ومباني سان بطرسبرج وتتلمس الأشياء هناك وترى كل تفاصيل معطف بطل الرواية أكاكي.

رواية كتبت قبل ما يقارب المئتي سنة، لم يكن سهلاً علي أن اندمج مع نماذج من البيئات القديمة التي لم أعش زمنها أو مكانها، وكذلك بطئ توالي الاحداث، ولولا تلك التفاصيل الدقيقة ما كانت لتشدني تلك الرواية القصيرة نوعاً ما للمتابعة، فأنا للأسف لست من الذين تأسرهم قراءة الروايات وأن حدث ذلك فهو من النادر الذي لا حكم له.

أود هنا أن استل جزءً من الجانب الأداري الذي شاهدته في الرواية، فأكاكي الموظف الفقير المتقن والحريص على وظيفته، بل الذي لا يكاد يفقه أو يهمه شيء في الحياة سوى وظيفته الحكومية المرتبطة بنسخ الكتب ويقبض مقابلها أو مقابل الاحتفاظ بفقره 400 روبل، هو بالنسبة لي واقع أو نسخة طبق الأصل لنمط ذلك الموظف الذي ما زال يعيش بيننا إلى الآن وليس قبل 200 سنة في أقصى الصحارى الثلجية. ذلك الموظف الذي جعل من وظيفته البسيطة محوراً وقدراً لحياته، لا يريد أن ينفك عنها ولا يريدها أن تنفك منه، يعترف زملائه بمهنيته لكن يعيش كشخص غير معترف به، لا طموح أفقي ولا عمودي لديه، يتذوق الكفاف وليس لديه هوى أو فضولاً يقوده للتفكير في تحسين وضعه أكثر من الوقوف عند حافة تأمين حاجاته الأساسية الأساسية فقط، فهو ليس لديه استعداد لأستراق النظر لأبعد من هذا، ولا يريد حتى الترقية لو ابتسم له الحظ الذي لا يبتسم لمثله عادة لوظيفة أخرى إشرافية، وحتى لو حصل ذلك لن يستطيع أن ينعتق من نمطيته السابقة أو يتصرف بغير العقلية التي كان عليها في وظيفته البسيطة السابقة، وسوف يستميت لجعل من تحت إمرته يعيشوا ويتصرفوا كما كان هو في عالمه أو وظيفته السابقة، صدمة الإفاقة من هذا الواقع - إذا حدثت - لعلها أشد وطأة من سماع رد خياط المعطف على أكاكي بحقيقة عدم إمكانية إصلاح ذاك المعطف المهترئ الذي استغرق الكاتب في وصفه وجعل جزءً مهماً من الرواية حوله.

لعل المعطف في الرواية كان تعبيراً عن الدفئ والآمان الذي يحتاجه الانسان كما عبر عنه هرم ماسلو، وهذا ما فهمه وآمن به أكاكي كنموذج تطبيقي لهذا الهرم، وهو أن الوظيفة البسيطة التي بين يديه ولا يريد لها أن تتغير، لأنه لا يرى ولا يستشعر الآمان سوى بها، فهي التي تنتج له الآمان الذي يتوهمه.

يتبع.....