آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:06 ص

الروحانيات بقعة ضوء

وديع آل حمّاد

بعد أن نشرت مقال «فيروس العقل»، وردتني مجموعة تعليقات حوله، ولكن هناك تعليقة فريدة في ردة فعل صاحبها، أبررها بحرصه على العقيدة التي يؤمن بها، وليست منطلقة من بعد شخصي اتجاهي، فله كل العذر المشفوع بالتحية والتقدير مني له.

وتعليقته على المقال كانت التالية: كتابة تمجد العقل والعلم لتخفي وراءها الدعوة إلى البعد عن التعلق بالله وبأماكن العبادة، أليس ذلك دعوة إلى الإلحاد ورفض الدين؟ لم يبق لك إلا أن تدعو إلى الإلحاد تصريحا لا تلميحا، لتخلع القناع وتسفر عن وجهك الحقيقي.

بالطبع لم أحاول الرد على هذه التعليقة في وقتها لسببين:

الأول: الخشية من الانزلاق في ردي إلى دائرة الانفعال والهيجان العاطفي، وبالتالي البعد عن العقلانية والمنطقية الذي لا يفضي إلى القناعة المعرفية، بل إلى مزيد من التوتر والتشنج

الثاني: وجدت في هذه التعليقة بعد التأمل فيها، بأنها فتحت بابا لي لكتابة مقال جديد له ارتباط علائقي بالموضوع السابق «فيروس العقل»، وهذا المقال يتعلق بالجزء الآخر المكمل للجزء السابق الأخذ بالأسباب الطبيعية واحترام معطيات العلم ، وهو مدى تأثير البناء الروحي والتعلق بالله في مواجهة هذا البلاء الوبيل.

هذان السببان كفيلان لإرجاء الرد لعدة أيام، وليس من باب التجاهل والازدراء.

وسأبدأ المقال بالتساؤل التالي: هل نحن بحاجة إلى التعلق بقوة خفية لرفع البلاء، ما دمنا معتمدين على معطيات العلم والأخذ بالأسباب الطبيعية؟

فكما قلنا في المقال السابق بأن إغفالنا وإهمالنا عن معطيات العلم في مواجهة هذه الأزمة، ستفضي بنا إلى كارثة كبيرة في الخسائر المادية والأرواح، كذلك غفلتنا عن البناء الروحي والتعلق بهذه القوة الخفية ستجعلنا نعيش حالة اليأس والإحباط والقنوط وفقدان الأمل وغياب التطلع نحو المستقبل وضبابية الرؤية ومزيد من الأمراض النفسية.

نعم ما زلت أؤكد على أن التطور العلمي والطبي الهائل، يلعب دورا كبيرا في مواجهة هذا الفيروس، وما زال العالم يراهن عليه ليخرج منتصرا من هذه الحرب. بيد أن الناس يعيشون حالة الاستغراق في القلق والحزن، يقول ابن حزم الأندلسي: بحثت عن هدف مشترك بين الناس، اتفقوا أن يكافحوا من أجله، فلم أجد سوى أن جميعهم يقهرهم الحزن. انتهى

بقليل من التأمل في وضع الإنسانية في الوقت الحالي سنجد بأن الهم مشترك بين الشعوب، فهاجسهم واحد وخوفهم واحد وقلقهم واحد وتطلعاتهم غير متباينة، كل فرد في هذا الكوكب متشح بلباس القلق يحذوه الأمل ويتطلع نحو زوال هذه الغمة وتلاشي هذا الوباء.

وللخروج من الاستغراق في الحزن والقلق الذي قد يؤدي إلى الانتحار أو الاكتئاب ومزيد من الأمراض النفسية وفقدان التوازن، فعلى الفرد العمل جاهدًا على تقوية مناعته الصحية النفسية من خلال برنامج روحاني عبادي حافل بمثل هذه المفردات، وهي: الإكثار من الصلوات المستحبة والصوم المستحب والدعاء والتهجد والإنابة والتفكر والاستغفار والمحاسبة والتبتل والرجاء والرغبة والتحلي بأعلى درجات الصبر ونحو ذلك.

لاشك بأن الإقبال على الله بمثل هذه العناصر بروحية التذلل والخشوع والخضوع والتسليم له والقبول بقضائه والتوكل عليه والثقة به، يمنح الفرد مزيدا من السكينة والاطمئنان، والكون في حالة توازن، وتصبح حياته ذات معنى. إذ من الخطورة بمكان تسلل الشعور بكون الحياة باتت ليست لها معنى إلى نفس الإنسان، حيث سيفقد الحافزية والدافعية والمحركية على تجاوز المحن ولن يبحث عن أية إضاءة ترشده يستعين بها للخروج من هذا النفق المظلم.

أخي العزيز:

الذي أكن لك كل الود، يبدو بعد هذا العرض أن الصورة اتضحت والمشهد اكتمل، وخلعتُ القناع الذي بدا لك بأني مرتديه وأسفرت عن وجهي الحقيقي الذي تريد رؤيته، وأبنت لك بأن للدين هوية، وللعلم هوية مغايرة، وبالتالي وظيفة كل واحد منهما مختلفة عن الأخر، فلا العلم يقوم بوظيفة الدين ولا الدين يقوم بوظيفة العلم، فلا يحل أحدهما محل الأخر، فالخلل كل الخلل في وضع الشيء في غير محله.

وفي الختام:

لنرفع أكفنا متضرعين إلى الخالق جلت قدرته بنفوس خاشعة وقلوب صافية، لتلهج ألسنتنا بمثل هذا الدعاء: إلهي عظم البلاء وبرح الخفاء وانكشف الغطاء وانقطع الرجاء وضاقت الأرض ومنعت السماء وأنت المستعان وإليك المشتكى وعليك المعول في الشدة والرخاء.