آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

تباعد جسدي لا اجتماعي

المهندس هلال حسن الوحيد *

مع صعوبة التباعد الجسدي في حدوده العليا مثلما تتطلب هذه الفترة، إلا أنه من الحيفِ أن يأخذ هذا النوع من التباعد الجسدي ”المؤقت“ اسم ”التباعد الاجتماعي“. بُعد الجسد ليس بالضرورة هجرانا وبعداً اجتماعيا، فحين تجبر الحياةُ الملايين من البشر أن يبتعدوا ”مؤقتًا“ عن بلدانهم وأهاليهم إما للعمل أو للدراسة، فهم يبقون أكثر ارتباطا وعاطفة ونفعا من تقاربهم الجسدي الذي قد لا يوفر لهم مقومات الحياة أو يحقق لهم تطلعاتهم في مستقبلٍ أفضل. هذه الجائحة أقنعتنا بمنافع سلوك ”التباعد الجسدي“ المحدود الذي كان من المفترض أن يكون موجودا قبلها ويبقى بعد زوالها، وأكدت لنا منافع التقارب الاجتماعي اللا محدود!

لم تهتم بعض المجتمعات، قبل الجائحة، بترك مسافة مكانية بين أفرادها في الأماكن العامة، في المصرف، عند محاسب المتجر والبقالة، في الأفراح والأحزان. ذلك لأن القرب هو جزء من عاطفة الإنسان الودود الذي لا يمانع أن يقترب ويتحدث ويجامل من يعرفه ومن لا يعرفه. الآن، اضطرت صروف الدهر ”جميع“ أفراد المجتمعات أن تبتعد جسديا عن بعضها البعض مسافةً آمنة، يَتكمم الفرد ويضع يده في جيبه ولا يطيل الحديث!

لم تقبل هذه المجتمعات عادةَ التباعد والخصوصية بين أفرادها في ”حدودها المعقولة“ من قبل ظهور الحاجة الداعية إلى ترك مسافة وخصوصية بينهم، فهي عادة يرونها لم تستهلك بعد! فهل بعد هذه التجربة العالمية القاسية تشمل العولمة عادةَ التقارب الجسدي فيترك الناس مسافة بين بعضهم البعض؟ فعلا كنا نقترب كثيراً في مشاهدَ هزلية، فهل رأيت أحداً يترك مسافة بينه وبين غيره في أي محفلٍ أو مجمع دون أن يسارع واحدٌ منا لاغتصابِ تلك المسافة الفارغة؟.

تأخذ كلمة ”التباعد“ صفةً سلبية إن كان المقصود منها التباعد الاجتماعي والقطيعة. أما ما تفعله بعض الشعوب بصورة طبيعية من تباعد جسدي محدود فهو ”النظام أو الانتظام“. وفي الحالة الثانية يكون تغير بعض العادات الاجتماعية القديمة التي اعتدنا عليها دون تحفظ مكسباً وأثراً جيدا من آثار هذا الحدث.

أما على صعيد التقارب الاجتماعي فهذا الحدث المؤلم عمل على تقريبِ وتَقوية نسيج وروابط العوائل والمجتمعات والدول وترطيب عواطفها وتكثيف عطائها بصورة مغايرة لمفهوم مصطلح ”التباعد الاجتماعي“.

عادات البشر في الود تحملها الأجيال جيلاً بعد جيل ويعتبرونها تراثاً وحضارة وتقاليد أصيلة لا يمكن تغييرها، فجاء الآن التحدي الأكبر الذي تطلب بضعة أشهر وعشرات الآلاف من الضحايا، وبين ليلةٍ وضحاها تغيرت تلك العادات دون أن يبكي عليها أحد. ويبقى السؤال: هل سوف يدوم هذا التغيير أم تعود الناس تلبس طباعها وثيابها القديمة؟ الأيام سوف تكشف الجواب.

مستشار أعلى هندسة بترول