آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

الوجاهة الإلهية

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴿الأحزاب الآية 69.

الآية الكريمة تتحدث عن مكانة عالية نالها النبي موسى من خلال عمله الحثيث في طريق العبودية لله تعالى والإصلاح في مجتمعه، فقد سطر ملاحم الصبر والتضحية والعمل المثابر بلا ملل أو ضعف في سبيل هداية الناس للحق، ولو كان ذلك يتطلب الوقوف أمام أعتى عتاة زمانه فرعون القوة والبطش والظلم، فمن تعلق بالله تعالى وتملكت تلك الجاذبية فؤاده هان عنده كل شيء، فقد تجلت في قصة موسى العناية الخلصة به منذ ولادته وحفظه في قصر فرعون والإنقاذ الإلهي له من بطشه وإغراق فرعون ومن معه من جند، وأبدى النفس الهاديء الطويل أمام المرجفين من بني إسرائيل ممن حاولوا إلصاق التهم الكيدية به، فيأتي النداء الإلهي لكل من طلب طريق القرب والوجاهة الإلهية بعدم الإصغاء لأساليبهم الكيدية فيشغل وقته ويستنزف طاقته النفسية استعراض تخرصاتهم، فما يقوي مسيرة الوجهاء الإلهيين هو قوة التوكل على الله تعالى والعمل بإرادة صلبة.

يتبادر للذهن من واقع الحياة اليوم والذي تأثر بالجانب المادي والتصق به، بحيث أصبحت المفردات والمفاهيم تتأطر بحده دون غيره، ومن تلك المفاهيم الوجاهة والذي يرتكز في الأذهان على أنه صاحب الثروة المالية الذي له مكانة بين الناس وصاحب يد طولى في قضايا ومشاورات أفراد المجتمع بحيث لا غنى عنه في أي مشروع، وهذا المفهوم بحد ذاته حسن لو أشير به إلى صاحب العطاء وبلسمة حاجات المعوزين، ومن له حضور إيجابي في إتمام المشاريع الخدمية والمشاركة في ترسيتها.

ولكن مفهوم الوجاهة في الطرح القرآني أشمل وأوسع وأشرف في تعاطيه مع الإنسان المكرم وصاحب النفس الحرة، فيشير إلى جانب رفعة الشأن وعظم القدر في شخصية الإنسان وتفكيره، وهذا ما يتجلى بوضوح فيما يصدر منه من منطق سديد يدعو إلى الرشد وإنضاج العقول بما يطرحه من أفكار وتصورات ومخططات مستقبلية تتعلق بنفع الفرد وازدهار المجتمع، كما أن تصرفاته تنم عن نفس طاهرة طيبة تطبق وتجسد السلوكيات الحسنة والإيجابية، مما يجعله مصدر افتخار وإعجاب واقتداء للناس من حوله لما يرونه من جميل تصرفاته ومعروفه.

كما أن الوجيه يحضر رشده وتألقه الأخلاقي في حالة مواجهة محاولات إسقاطه في وحل الإساءة والمهاترات والمخاصمات، وذلك بالترفع عنها والإعراض صفحا عن الخوض في مثل هذه المنزلقات التي لا تتوافق مع ما يحمله من قيم تربوية.

ويذكر لنا القرآن الكريم مثالا رائعا لمن كان وجبها في قومه، ورسم على صفحات التاريخ كل علائم الرفعة والعظمة، فنبيه الله موسى في قراءة مختصرة جدا لجهوده التبليغية الرسالية ومنطقه الحواري الاستدلالي الرائع، والذي كان يستعرض فيه حقائق الخالق والموجدات بأسلوب رائع يتوافق مع العقول، ووجاهته تتجلى في ذلك الصبر الجميل والصدر الواسع الذي تحلى به عليه وظهر السلام جليا في تحمله لجبهات الأعداء من فرعون وقومه والعتاة من بني إسرائيل، فمكنون شخصيته يحمل كل قيم العبودية والخلق الرفيع فكان وجيها عند ربه حتى نال مرتبة كليم الله تعالى، حيث واجه الأذى في طريق تبليغ الرسالة بالتسليم والرضا بالقضاء الإلهي، متوكلا عليه سبحانه في خضم الصعوبات التي تكتنف مهمته الكبرى في هداية الناس وإرشادهم إلى الحق.

والدرس المهم الذي نستلهمه من ذلك هو أن العظماء مهما بلغوا من درجات الوجاهة والرقي فإنهم لن يسلموا من الأذى والمكر والافتراءات، في محاولات متعددة لإسقاط شخصياتهم أمام الناس وفقد الثقة بهم، ولكن الله تعالى لا يدع عبده الذي انقطع إليه وبذل في سبيله كل غال ونفيس عرضة لفتن الماكرين، بل يدافع عنهم ويبقيهم تحت مظلة لطفه وتدبيره الحكيم، فلا تهتم يوما في طريق الخير والصلاح بما تسمعه من أذى الأشرار إذ سينقلب سحرهم وكيدهم عليهم، من الخطأ الكبير الانزلاق إلى إعطاء أهمية ورعاية لكل ما يتفوه به المتخرصون، فإن أساليبهم الالتوائية لن تتوقف ما رأوا وجيها عند ربه يعمل بهمة وإخلاص في سبيل إصلاح مجتمعه ونهضته المعرفية والأخلاقية، فكلام الكيد غثاء لا يستحق التوقف عنده وإنما أفضل الردود عليه تجاهله والاستمرار في طريق الحق والاستقامة، وما يستحق الاهتمام هو التفكير والتخطيط للأعمال التي تقرب من الله تعالى وتكسب صفة الوجاهة عنده، وتحقق علامات الحب الصادق والعمل المخلص لله تعالى باذلا الجهود الحثيثة في طريق التكامل والإصلاح.