آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:12 م

بائع الشاي

بعد أن تركتُ العملَ الرسمي عدت إلى الأرضِ عاملا واقتربت منها قامة. ساعة بعد انبلاج الفجر وساعة بعيد الظهر من كل يوم. ألسنا كلنا خلقنا من طينِ الأرض؟ في عودتي يتعرج الطريقُ ويأخذني بين المزارعِ والبساتين التي تذهب معظم نضارة خضرتها ويشح محصولها في الصيف. أما في بداية فصل الخريف، شهر سبتمبر، فينتشر العمالُ من جديد يسمدون أراضيهم لإصلاحها وزيادة إخصابها ويَحرثونها كي تجود عليهم بأكبر قدرٍ من العطاء.

بعد عدة انحناءات تختفي مزارعُ الخضار وتستولي أشجارُ النخيلِ والحمضيات على المشهد، قبل أن يختفي الطريق الطيني ويحل محله الشارع ذو الطبقةِ السوداء. وتتأكد بداية فصل الخريف بعودة الرجل، بائع الشاي، عند تقاطع الشارع الذي يعبره المشاة من أجلِ الرياضة واللياقة، بالإضافة للقاصدين بسياراتهم القرى القريبة.

يأتي الرجلُ بعيد طلوع الشمس ثم عندما تخف حرارتها بعد الظهر، يبسط أواني وأباريق الشاي فوق طاولةٍ خشبية. ربما لم يتعد الأربعين من العمر، لوحت الشمسُ لونه الأصلي فصار يشبه لونَ طينِ الأرضِ التي يقف فوقها، يتمايل بين البني المصفر والبني الزيتوني. يعتمر الكوفية ويشمر عن ساعديه وما هي إلا دقائق ويرتفع الدخانُ المملوء بالعبقِ الزكي من رائحةِ الشاي والقهوة.

قليلا قليلا يقف أصحابُ السيارات ويصب لهم الشاي في صمتٍ لا يكسره إلا وشوشة الملاعق تذيب السكر في أكواب الشاي وفناجين القهوة. تأخذ الشمس في الغروب ويذهب ثم يعود في اليومِ الذي يليه دون إجازة. كنت أعرف فصول الخريف والشتاء والربيع في حضوره وأعرف حضور فصل الصيف في غيابه.

تذكرت بائع الشاي هذا الصباح لأمرين، أولا: لأنه غاب في هذا اليوم الماطر، من أجملِ أيام الربيع وأوفرها رزقا حين تفتح السماء أبوابها بماء المطر، فلن يرهقه حر الشمسِ التي بالكاد تخرج من بين السحب.

ثانيا: كم من بائع شاي وكم من عامل يعمل بأجر يجمعه في الصباح ويصرفه في المساء؟ حرمتهم هذه الفترة من نسماتِ الرزق سوى ما يهبه المحسنون لهم، كانوا قبلها عاملين متعففين زاهدين عما في أيدي الناس؟

على كل حال سوف تنتهي أعراض الجائحة عما قريب، وسيأتي بائعوا الشاي يسكنوا تقاطع الشوارع، ويأتي الزبائن يشترون منهم، ويعود الفلاحون يزرعون أرضيهم، وأعود أنا لأرضي! فحين تمطر السماء لا بد أن يستبشر أهلُ الأرضِ أن السماءَ لا تنساهم، وأن الفرجَ والمخرج قريب.

مستشار أعلى هندسة بترول