آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

لا عاصم اليوم

المهندس أمير الصالح *

كنت أظن أن من ينتمى لعائلة متنفذه أو قبيلة قوية الشوكة أو مجموعة شلة من الاقطاعيين أو يملك مأوى في دولة أوربية أو يملك رصيد مالي ضخم بالعملات الصعبة والذهب والاسهم او يحمل جواز سفر دولة قوية، كنت أظن أنه في ملاذ آمن من تهديدات قطاع الطرق والقراصنة والإرهاب ومحصن من مصادرة حرية التعبير وله كامل حربة التنقل إذا ما حلت تلكم الأمور في مكان ما على أهل الأرض.

كما ظن البعض من سكان دول العالم الاول ان وجودهم في اماكن بعيدة عن منابع الاوبئة يعصمهم من الوقوع فيها. وكان للسينما هوليوود والأفلام الترويجية التجارية المؤدلجة دور كبير في بناء هكذا تخيل في رأس الملايين من البشر. الا ان ما يمر به اليوم سكان الأرض بسبب جائحة الكورونا جعل الإنسان، حيثما كان ذلك الإنسان في دائرة خطر الإصابة بالوباء والرحيل للعالم الآخر. أي ان لسان الحال هو ﴿لا عاصم اليوم من أمر الله.

وكان حجم الصدمة كنس وهدم كثير من الأوهام والبروبجندا التي كان يعتقد البعض بانها حقائق مصيرية وكونية كحقيقة شروق الشمس من المشرق. العولمة واكتساح العولمة لصغار المزارعين والتجار والصناع أضحت مشلولة. انه بالفعل طوفان من دون ماء.

عندما كنت أتأمل في كتاب الله المبين لكلمة ”لا عاصم“، سبحان الله استحضرت في مخيلتي احداث قصة نبي الله نوح اثناء حدوث الطوفان العظيم الذي غطى كوكبنا آنذاك ومحادثته الخاطفة مع ابنه. جملة ﴿قالَ سَآوِي إِلى‏ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ سورة هود، آية 43، صفحة 226.

وصف بديع وموجز في الآية الكريمة يعطي الشمولية للطوفان الذي ضرب كل الناس آنذاك على امتداد وجه الأرض. عندما كنت في مقتبل شبابي، كانت لدي تساؤلات قديمة جدا ومن ضمنها: لماذا الله العلي القدير وثق تلكم الأحداث التاريخية وجعلها قرآن يتلى إناء الليل وأطراف النهار ويتعبد بتلاوتها. في الحقيقة استشعرت جزء من الجواب لذلك التساؤل ومنها العبرة والعظة التي تحملها الآية الكريمة «لا عاصم اليوم» بشكل كبير ومزلزل وملموس. والدروس التاريخية مليئة بالدروس لذا استوجب تدوينها. لا سيما مع تدحرج كرة وباء كورونا عبر العالم والمحيطات وما تناقلته وكالات الأنباء العالمية من توقف شبه التام لحركة النقل الجوي والمصانع وتحول مدن عظمى إلى مدن أشباح. استرسلت واستنطقت تأملا من الآية بان رمزية الجبل في جملة ﴿سَآوِي إِلى‏ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ هي مجموعة الضمانات التي يعتقد فيها الإنسان المعاصر للنجاة من المهالك المادية ومن ضمن تلكم الموانع للهلاك في لغة العصر التامين الطبي والانتماء لوطن ما والأموال الطائلة وكثرة العدد والقوة الجسدية. وهنا تلمست ان هناك احداث مفصلية تحدث الفروق في تاريخ الإنسان تستحق التدوين برمزية احترافية بلاغية والقرآن هو ذلك الكتاب المبين. لم نكن أنا وإياك موجودين في عهد نبي الله نوح حيث الطوفان العظيم، الا ان حدث طوفان الجائحة لفيروس كورونا تستوجب من بني البشر استقراء الحدث واعادة القراءة له في عالم الواقع لإعادة تقييم كامل أنماط الحياة والتطلع لمستقبل افضل وعلاقة أطيب مع الخالق المصور والمحيط البشري والبيئي.

لعل تصريح وزير الصحة الياباني، يوم 16 أبريل 2020، عن توقعه ببلوغ عدد الضحايا للفيروس كوفيد - 19 قد يفوق الأربعمائة الف ضحية من سكان اليابان، اثار الرعب في نفوس مواطنيه. حتى انهم تدافعوا بشكل ملفت وغير معهود عنهم وينم تدافعهم على اماكن بيع الكمامات الصحية عن الصراع من اجل البقاء. وتصريحات وزراء الصحة لمعظم دول العالم في كل بلد تؤشر إلى تزايد أعداد الضحايا لهذا الوباء من جهة وعلى غياب أفق الحلول المختبرية الفاعلة للأدوية حتى الساعة من جهة ثانية. التجلد والمواظبة في تفعيل كل الاحترازات والالتزام ب المحافظة على مسافات الابتعاد الاجتماعي لتقليل التعرض للخطر هي الأدوات المتاحة والأكثر فعالية فنرجوا الالتزام بها. ولعل ما يخفف وطأت جفاف الابتعاد الاجتماعي social distancing هو المراعاة الأخلاقية والأدبية والتعاضدية والنفسية والروحية لكل منا باتجاه الإنسان الآخر. والحرص على عدم انتهاز الفرصة لانقضاض التاجر على جيوب المتسوقين برفع الأسعار. والحرص على الشفافية والمساعدة على تعيين أهل التعفف لايصال المؤن والسلات الغذائية لمن هم أهل استحقاق لها وفي امس الحاجة لها.

والدفع إلى تبني مبادرات عملية تخفف اثار هذه الجائحة على النفوس. والحرص على عدم الانزلاق في مهاترات التراشقات بالكلام الغير مجدي. قد يكون هذا البلاء الحالي صورة مصغرة لما قد تتطور اليه الأحداث.

ورمزية هذا الحدث تستنهض في نفس كل شريف من ابناء الإنسانية للتقدم على إنجاز ما يمكنه القيام به لخلق عالم افضل ويجعل كل منا عمله وإنجازاته ومبادراته هي اللسان الناطق عنه أمام الله وكل ابناء البشر. تذكر ان؛ ﴿لاَ تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ كما ورد على لسان الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام.