آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

الاستهلاك مرض العصر

محمد الحرز * صحيفة اليوم

لم تتوحد البشرية خلال تاريخها سواء على مستوى قضاياها أم أزماتها أو حتى مشاعرها مثلما هي عليها الآن، وبوضوح كبير لا يخفى على أدنى مراقب، وهذا منطق مفارق بالنظر إلى السمات الكبرى التي تتميز بها حضارتنا المعاصرة.

فما المقصود هنا بالمنطق المفارق؟

إنسان ما قبل الحضارة المعاصرة لم تكن مشاكله في جميع مجالات الحياة اليومية تتجاوز حدود رقعة جغرافية صغيرة تحت مسميات عديدة، قرية أو مدينة أو حيا سكنيا بسيطا، ويكون ساكنوه أو قاطنوه، في الأغلب الأعم يعدون على أصابع اليد الواحدة.

فأزمات الحياة الاجتماعية والاقتصادية من تأمين المعيشة اليومية، أو الصراعات العائلية والعشائرية والحروب أو انتشار الأمراض والطبابة وغيرها لا تمثل عائقا كبيرا، فكل مشكلة تنتهي إما عند شيخ القبيلة أو رجل الدين أو الحكومة على أكثر تقدير.

رغم ذلك ظل هذا الإنسان ينتج ثقافة عبر تاريخه سواء كانت فكرية أو فلسفية حافظت فيها حياة الإنسان على التوازن البيئي والفكري والاجتماعي تتمثل في الآتي: جميع منجز الشعوب التي عاشت على هذه الأرض تركت خلفها موروثا أدبيا وفكريا وفلسفيا كانت استعارة الحياة الإنسانية على العموم باعتبارها القيمة المطلقة التي تعادل قيمة الحياة هي في قلب تصوراتها عن العالم.

وعليه اختلال هذه المعادلة أدى إلى ما أسميه المنطق المفارق، وحتى تكتمل الصورة أكثر أطرح السؤال الموالي:

هل اختفت كل هذه المظاهر عن حضارتنا المعاصرة؟

ليس هناك منطق يقيني يقول بفكرة اختفاء ظواهر الماضي كلية عن مسرح الحياة. حضارتنا المعاصرة من جهة - إذا ما أردنا أن نتناول جانبا واحدا من المسألة ألا وهي ثقافة الجسد وصحته - أدخلت الجسد في سياق فكري ساعد كثيرا على تطور صحة الإنسان وانتشل الكثير من تصوراته السابقة المغلوطة عن جسده.

لكن من جانب آخر فكرة الاستهلاك التي تعتبر عصب الحياة المعاصرة، حدت أو قلصت كثيرا من هذا السياق، وبسبب السباق المحموم في فكرة الاستهلاك ذاتها التي وصلت إلى حد الأزمة العالمية، حيث تكمن تمظهراتها في الكثير من الأزمات الحالية، يكفي الإشارة إلى أزمة الأوبئة التي وإن عرفها إنسان العصور السابقة، لكن الآن اختلف الوضع، أزمة فيروس كورونا على سبيل المثال أعطت الشعور الإنساني المشترك الذي كانت تغطيه أو تخفيه عن الأنظار جملة من الأسباب أهمها سببان: سرعة الحياة، والأنانية المفرطة. أعطاها الفرصة كي تبرز على الساحة من خلال الخطر المشترك الذي يهددها، الخطر العابر للحدود الذي يهدد وجودها، الخطر الذي يهدد وجودها على هذا الكوكب.

لذلك شاهدنا الكثير من عقلاء المفكرين والفلاسفة والمصلحين يدعون إلى التخلي أو التصدي للمساوئ التي ما زالت تخلفها العولمة على حياة الشعوب وخصوصا الفقيرة منها، وإعلاء روح التضامن، والحد من هيمنة رؤساء الشركات العابرة، والأخذ بيد المنظمات الاجتماعية التي تعلي من قيمة الإنسان وحقوقه والبيئة ونظافتها، فما بعد كورونا لن يكون كما سبقه.