آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 8:44 م

بلسم الغضب

علي صالح البراهيم

الموقف الأول: استيقظ راشد من النوم، وبعد غسل يديه هَمَّ بتناول وجبة الفطور مع زوجته وابنته الصغيرة والتي كانت جالسة محاذية له، وبينما هي منشغلة باللعب إذ أوقعت قدح القهوة الساخن فانسكب محتواه على ثيابه، فاستشاط غضباً وقام بضربها ووبَّخ زوجته وعلا الصراخ بينهما فقام ولم يُنه وجبته، وبدَّل ثيابه وخرج مسرعاً يريد ركوب السيارة، وعندما أدار المفتاح وجدها لا تعمل فسدَّد عدة لكمات للمقود وصبَّ جام غضبه على السيارة وصانعها وممن اشتراها منه، وبعد جهدٍ جهيد اشتغلت السيارة وانطلق مسرعاً إلى عمله، فقطع الإشارة الحمراء وتحصَّل جراء ذلك على مخالفة باهظة الثمن، وعندما وصل إلى العمل أخبروه بأنه مطلوب من قِبَل المدير، ولما رآه سأله عن سبب التأخير والذي كان يزيد على الساعة ونيف؟ وكان رد راشد غير مهذب وغير عقلاني ولا ينم عن سلوكٍ حسن فوبَّخه المدير وحسم من مرتبه يوم كامل، واعتبر راشد حياته ذلك اليوم جحيماً لا يطاق.

لنقم بإعادة سياق القصة مرة أخرى وبشكل مختلف:

أستيقظ راشد من نومه، وبعد غسل يديه ألقى تحية الصباح على زوجته وقَبّل أبنته الصغيرة والابتسامة تعلو محياه، وبينما هو يتناول وجبة الفطور إذ أوقعت ابنته قدح القهوة على ثيابه، وكان رده: لابأس ما دفعه الله كان أعظم. فقام بتغيير ثيابه، وأكمل فطوره وودَّع زوجته وابنته ومازالت الابتسامة تتراقص على شفتيه والبهجة تداعب وجنتيه. وعندما أدار مفتاح السيارة وجدها لا تعمل، فاتصل على مديره مبدياً أسفه واعتذاره وحكى له ما جرى من أحداث فشكره وقبل اعتذاره، ثم أستغل سيارة أجرة فوصل عمله ولم يكن تأخيره إلا نصف ساعة عن الموعد المعتاد ولم يعتبر يومه مأساوياً، بل هي محطات متأرجحة في حياة كل إنسان بين الشدة والرخاء، مرددا في طيات قلبه الحمد لله كما هو أهله.

الموقف الثاني: خرج زياد من المنزل حانقاً بعد أن نشبت معركة طاحنة بينه وبين زوجته، وبينما هو يسير مسرعاً بالسيارة وفي غفله منه تسبَّب في وقوع حادث شديد تطايرت بسببه أشلاء من سيارته وسيارة الطرف الآخر وسقطت على قارعة الطريق، فنزل من السيارة وكذا السائق الآخر ووقعت مشادة كلامية بينهما يتخللها السب والشتيمة، فما كان من زياد إلا وأفل راجعا الى سيارته وأخرج آلة حادة وسدَّد عدة طعنات في قلب وبطن الطرف الآخر، مما تسبَّب في وفاته على الفور فأرَّمل زوجته وأيتم أطفاله، وخسر زياد بالطبع حياته حيث اودعوه السجن بانتظار تنفيد حكم الإعدام فيه لتسببه في هذا القتل العمد.

تارة أخرى لنقم بإعادة سياق هذه القصة بشكل مختلف:

وقع سوء فهم بين زياد وزوجته، فما كان من زياد إلا أن غيَّر موقفه وتوضأ ووعد زوجته أن يقوم بحل الموضوع لاحقا، ولكنه يريد الآن الخروج وأخذ فترة نقاهة ثم العودة إلى البيت مرة أخرى. وبينما هو يقود السيارة وفي غفله منه وقع له حادث شنيع ولكنه لم يصب بأذى، فحمد الله على السلامة وخرج مسرعاً ليطمئن على سلامة الطرف الآخر، فبادره بالتحية ووجده سليماً معافى ولم يصب بأي مكروه، فأبدى أسفه واعتذاره الشديدين له وبينما هما يتحادثان أجمل الأحاديث وأطيبها، اذ وصل «نجم» وقام بإنهاء الإجراءات بينهما، وأخذ زياد رقم الطرف الآخر وتطوَّرت العلاقة بينهما إلى صداقه حقيقية مبنية على المحبة والاحترام والصدق والوفاء وابتغاء مرضات الله عز وجل.

كثير من القصص تنتهي بعواقب وخيمة، وكان البطل المغوار في تلك القصص هو «الغضب» الذي هو سهم من سهام إبليس. وكان الأجدر بالأطراف المتخاصمة أن يتخذوا الحلم والأناة شعاراً لهم حتى لا يقع مالا يُحمد عقباه، فإن للغضب آثارٍ نفسية وصحية على الشخص الغاضب ومن آثاره النفسية: الكراهية والحقد والقلق والحزن والضيق والكآبة وغيرها، ومن آثاره الصحية الظاهرية: ارتجاف الاطراف وارتفاع ضغط الدم وقرحة المعدة والصداع وغيرها وأشدها وقت فورة الغضب عند بعض الأشخاص هي الإصابة بالنوبة القلبية أو السكتة الدماغية. وكلنا سمعنا بالسلوكيات المحمود إتباعها عند الغضب والمأخوذة من هدي المصطفى عليه وآله أفضل الصلاة والسلام اذ يقول: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع». وكذا الوضوء والصلاة والاستعاذة من الشيطان الرجيم.

أقول: قد تصادف في حياتك سواء في عملك أو السوق أو في الشارع شخصا قد انتفخت أوداجه يريد البطش بك، ممطراً إياك بوابل من الشتائم القبيحة فأنا أقول: دعه يفرغ كل ما بجعبته حتى يخلو إناءه من أي شيء ضدك، فالإناء المملوء يجب أن تتوقف وأن لا تصب شيء فيه حتى لا تحدث فوضى عارمة بالمكان ويصعب السيطرة على الموقف، فإن هو أنهى كلامه قابله بالإحسان واللطف واللين وتكلم بحسب أخلاقك أنت وبحسب ما تربيت عليه من الصلاح والاستقامة، تجده قد أنقلب كيانه رأساً على عقب، وبدل أن يكون ذئبا شرساً أصبح حَملاً وديعاً مبدياً استغرابه من ردة فعلك الباردة، والتي أجبرته على الخضوع والتسامح والغفران، أو على الأقل قد انطفأت جمرة الغضب من قلبه وأشاح بوجهه عنك دون أن يؤذيك أو دون أن يرتكب ضدك لا قدر الله جريمة نكراء.

ولاشك أن قلبك يتأذى من سماع الكلام الفاحش والبذيء، والذي يلقيه عليك ذلك الشخص الغاضب، ودواء ذلك بعد انتهاء الموقف بسلام الإنشغال بذكر الله وحمده وتسبيحه والسجود له. ولنا في رسول الله أسوةٌ حسنة فكفار قريش هاجموه وسبوه وآذوه ووصفوه بأنه ساحر وكاهن ومجنون ومما لا يحتمله قلب إنسان، وهو يقابلهم بالإحسان ويدعو ربه قائلا: «اللهم أهدي قومي فإنهم لا يعلمون» والله عز ذكره ينزل عليه الآيات التي تشافي قلبه المكلوم، حيث يقول في الآيات «97» و«98» من سورة الحجر: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ «97» فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ «98».

ومن القصص النيّرة في هذا المقام، والتي بها الختام ما ورد عن كريم أهل البيت الحسن المجتبى ، والذي قد ضرب أروع الأمثلة في حلمه وكظمه الغيظ رغم الموقف المؤلم الذي تعرض له... فيروى: أن رجل من أهل الشام دخل المدينة ذات يوم فرأى موكب الإمام الحسن مقبلاً تحفّه الهيبة والإجلال، ومن حوله الناس يتبركون بالنظر إليه، فسأل الشامي: لمن هذا الموكب؟ قيل له: للحسن بن علي. قال: يعني ابن أبي تراب؟ قيل: بلى

فأقبل يشقّ طريقه حتى وصل إلى الإمام، وأمسك بزمام بغلته وقال: أنت الحسن؟ فقال: «بلى». قال: أبوك أبو تراب؟ قال: «نعم». فراح يشتم الحسن ويشتم أباه أمير المؤمنين، فوضع أصحاب الإمام أيديهم على قوائم سيوفهم، إلا أنّها النفس الكبيرة من الإمام حيث تبسم في وجهه ثم التفت إليه قائلاً: «يا هذا أحسبك غريباً، هلمّ معي، إن كنت محتاجاً أغنيناك، أو ضالاً أرشدناك، أو جائعاً أطعمناك». ثم بعد ذلك اصطحبه الإمام إلى داره وأكرمه وأحسن إليه.

فقال الشامي: دخلت المدينة وليس على وجه الأرض أهل بيت أبغض إليَّ منكم، وأنا الآن سأخرج وليس على وجه الأرض أهل بيت أحبّ إليَّ منكم، أشهد أنكم حجج الله على بريته… انتهى.

وبما أن هناك غضب مذموم كما أسلفناه سابقا، أيضا هناك غضب محمود وهو أن يكون لله عزَّ وجلَّ عند ما تنتهك حرماته، والغضب الذي يكون رادعاً للظلم والباطل وباعثاً على الحق. فقد كان رسول الله يغضب لربه لا لنفسه وكان اذا غضب احمَّرت وجنتاه وعُرف ذلك في وجهه.

وكان يُحذِّر الآخرين من أن يغضبوا بضعته الزهراء البتول، لأنها لا تغضب الا لله ومقياس غضب ورضى الله يتمثَّل في فاطمة، فأن هي غضبت على أقوامٍ فأعلم انه قد حلَّ عليهم غضب الرحمن، وإن هي رضيت على اقوامٍ فقد رضي الله عنهم وحلَّت عليهم رحمته. «فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها» النبي الأكرم.

وقانا الله واياكم من شر الغضب ومن همزات الشيطان ولمزه وختم لنا ولكم شهر رمضان بالغفران والعتق من النار.