آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

العقلية المتفتحة

ياسين آل خليل

اعتقد الناس لسنين أن التقدم التقني سوف يحل جميع ما كان يواجههم من مشاكل، كالمرض والفقر وغيرها، ليكتشفوا مع مرور الوقت أنهم يعيشون في عالم هو أوهن من بيت العنكبوت. مزيد من التقنية هو أمرٌ في غاية الأهمية لرُقي الناس والمؤسسات المجتمعية، إلا أن التقنية قد تخلق مشاكل أخرى بنفس القدر. هذه الاستهلالية ليس لها علاقة مباشرة بما سأحدثكم به في هذه المقالة، وإن عجبتم..!

نعم ما قرأتموه للتو ما هو إلا تمهيد وفذلكة أردت من ورائها ترطيب الأجواء قبل الولوج إلى صُلب الموضوع. التطور هو باكورة كل ما نشهده اليوم من تغيرات في عالمنا، وفاتحة تقدمنا على مختلف الأصعدة الحياتية. هناك الكثير من بديهيات صغائر الأمور التي تعترض طريقنا، فنجد أنفسنا عاجزين عن التصدي لها، مما يوحي بأننا ما زلنا نُغْلِقُ عُقولنا عن الكثير من الأشياء حتى تحين اللحظة التي نرى فيها أنفسنا عاجزين ودون حَولٍ أو قُوّة.

قد يحاول البعض أن يُفْهِمَ الآخرين بأنه يَحمل عقلية مُتفتحة، تستوعب الكثير مما يدور في فضاءات حياته وحياة الآخرين من تصورات وتطلعات الحاضر والمستقبل، لكن سُرعان ما يتهاوى هؤلاء أمام صعوبة الدفاع عما يعتقدونه والشعور بالتهديد عند أي مُعارضة لما يتبنونه من أفكار.

على النقيض من الناس المنغلقين عَقْلِيًّا، المنفتحين يستقبلون الحياة بمنظار مختلف، ولديهم الاستعداد للاعتراف بأخطائهم في سبيل اتخاذ قرارات أفضل، تجعلهم في مواقع متقدمة وأوفر حَظًّا من ذي قبل. معتقداتنا وتجاربنا ومفاهيمنا لمختلف الأمور الحياتية، ورَدّات أفعالنا، عادة ما تلعب اَلدَّوْر الأبرز في تحديد أيّ مسار نتخذه.

كَوْن أن هُناك نِسْبَةٌ من الناس تَميل إلى اَلتَّحَيُّز قُبَالة تبني عقليات أخرى، فإنه من الصعب عليهم رؤية كلتا الوجهتين في آن واحد. نحن تعودنا أن نَصُمّ آذاننا ونغلق عقولنا حِيَالَ العديد من الأمور المُهمّة، وبدون وعي، نَسْتاء أن يُقَال عنا إننا مُخطئون. تصوراتنا القديمة التي نعكف على التمسّك بها، تجعلنا أكثر بُعدًا من أن نحتفظ بعقلية مُنفتحة.

من المُسيئ جِدًّا، أن تجد أفرادًا مَحسوبين على الطبقة المتعلمة والمثقفة، سَمّها ما شئت، تَتَخَلّق بأفكار مُثيرة للاستغراب وأقل ما يمكن وصفها بأنها معتقدات ذات أفق ضَيّق، وأنّها تَنِمّ عن استعلاء وَتَبَجُّح. هكذا أفراد، تجدهم في وضع دفاعي عند مواجهتهم لأيّ معلومات أو أحداث تُناقض ما لديهم من تصورَات ورؤى، اكتسبوها على مر الزمن، ويُصرّون على التمسّك بها بقوة.

أصحاب العقول المُغلقة عادةً ما ينظرون إلى عاداتهم وخياراتهم على أنها سِمَاتٌ شخصية ثابتة، لا يُمْكن إلغاؤها ولا تبديلها مَهْمَا يكن السبب. لذلك تراهم على نفس الحال مع تَغَيّر الزمن وتبدل القيل والقال. بكل البلادة التي عرفتها البشرية على مَرّ السنين، يرفض هؤلاء مبدأ التفكير في أي أنماطٍ عقلية أو مبادئ، تشكّك في الطريقة التي يرون بها الأشياء، أو تجعلهم يتخلون عن نهجهم القديم، وإن كان ذلك يَصُبّ في مصلحتهم ويجعلهم في حال أفضل مما هم عليه.

في المَقلب الآخر يعيش المُنفتح ذِهْنِيًّا صِرَاعًا سرمديا في مُوَاجهة ما اعتاد عليه، من طريقة في التفكير وما ينتج عنها فيما بعد. لكنه يعلم أنه بنهاية هذه المعركة سيخرج إنسانًا آخر، أفضل وَعْيًا وَكِيَاسَة، يتخذُ أحكامًا جريئة وقرارات ذكية تنمّ عن فَهْمٍ وفطنة بمجريات الأمور.

فَقُلْ لِمَنْ يدّعِي عِلمًا أَعِنْدَكَ مِن

هَذي المَذاهِب في أشْيَاءِ أنْبَاءُ

فإن أَجَابَكَ أو أوْلاكَ مَعْرِفَةً

فَلِلْأفَاضِلِ إفْضَالٌ وَإيْلاءُ

وإن تَوَقّفَ جَهْلًا بالجَوَاب فَقُلْ

حَفِظتَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْكَ أشْيَاءُ

_ابن معصوم المدني

لا أحَدَ يَتَنَكّر لِلصُّعُوبَةِ التي يَمرّ فيها الفرد لتغيير فِكْرِهِ بشأن مُعتقدات رَسَخَتْ في الذهن لِسِنِينَ. كُلّ شيء في هذه الحياة هو في تَغَيّر دائم. فقط اَللَّبِيبَيْنِ من الناس هُمْ مَن يَمْتلكون القُدْرَة على تحليل ما يَصِلُ إلى عقولهم، ولديهم الشجاعة الأدبية على نَقْدِهَا فكرًا وموضوعية للوصول إلى مُنْتَهَى الحَقيقية.