آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

بالخبز تختفي الآلام

من منكم لم يمر بتجربة عصا الأم ثم الخبز؟ تفعل شيئًا يغضب أمك فيأتي العقابُ في عصا أو صفعة تحط فوق جسدك النحيل. ثم يتفاعل ضميرُ الأم الرقيق ويأخذ في تأنيبها فيخرج النداء: أيها الصغير، أيها الصغير، تعالَ وخذ هذا الطعام وكله أو هذا الشراب واشربه، وفي الغالب هذا الطعام هو الخبز والكعك. تأتي الابتسامةُ والفرحة مع أول قطعة تتذوقها وكأنما هي حقنةٌ سحرية مَسَحْتَ بها كلَّ آلام العصا والصفعة!

هذا المثل ومنذ الطفولة يظهر حيزَ الراحة والأمان والسعادة الذي يشغله الخبز والبطنُ الملآن في حياتنا حين يرتقي ليكون في سلم الأولويات، إذ في الخبز الطاقة والحركة والبناء والحضارة والاستقرار.

هذا الخبز صنو الدين فحين يطرق سمعنا ”اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتكَ كأنك تموت غدا“ فهو خطابٌ يحثنا على بث روح العمل وأن نعيَ أن ثقافةَ الزهد والتقشف والمسكنة دون حدود لا تبني حضارةً ولا مجدا، فهذا الإنسان الذي هو نقطة في خطِّ الحضارة والتقدم، يحتاج الخبز ويدرك قيمةَ الحياة مع أنه موقنٌ بمصيره المحتوم في الموت.

ولا أظن إلا أن كثيرًا من صلواتِ الأنبياء والصلحاء وركعاتهم وسجداتهم كانت في أوقات سقي البساتين وحفر الآبار وإِعمار الأرض ولم تكن كلها في المحاريب. وأن كثيرًا من الثواب متوفرٌ اليوم خارج المسجد، في الجامعة وفي العمل وفي التجارة الأمينة والمصنع والمختبر وفي كل ما يوفر الخبزَ الحلال الطيب.

فلا تظنونَ أبدًا ان الدنيا ولذاتها لم تخلق ليكون فيها للمؤمن شيء، وله منها فقط النصب والتعب! كلَّا فهي للمؤمن والكافر على حدٍّ سواء ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا. فيخطأ ويلتبس عليه الأمر، من يظن أنّ نِعم الدنيا هي من نصيبِ طلابها فقط، وأنَّ أهل الآخرة محرومونَ مِنها، لذلك فإِنَّ الآية تمنع هذا اللبس والظن، بالقول: ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ثم من بعدها بقليل: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا.

ومن يتحدث عن فضائل الجوع وفوائده، مع أن للجائع عند اللهِ أجرا، فإن من الأجدر والأليق بأن يكون الحديث عن رذائل الفقر وما يبنى عليها من أسواءٍ وأدواء، وكيف يباع الفقير ويشترى في كلِّ زمان. أما المؤمن القوي فهو خيرٌ من المؤمن الضعيف لأن قوته قوةٌ لأهله ومجتمعه ودينه، وهذا لا يكون إلا بالخبز والعيش الكريم!

إذًا، استطيبوا خبزكم ورزقكم الحلال واستمتعوا بدنياكم فهي لكم ما دمتم لم تسلبوها من فمِ غيركم. فالنعم والرفاهية الحلال تليق بحياة الإنسان المؤمن قبل غيره، ولا ينقص من أجره شيئا!

مستشار أعلى هندسة بترول