آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 2:22 م

علماء الدين والانتلجسيا

جلال عبد الناصر *

لقد دفعت حاجة الانسان للتكيف إلى سن قوانين تساعده في بناء حضارة يضمن من خلالها الوصول لمستوى عالي من الراحة النفسية والاجتماعية والجسدية، وقد سعى البابليون في حضارة بلاد الرافدين إلى ذلك. ومن أشهر من قام بذلك هو حمورابي الذي وضع اثنا عشر جانباً يمكن اعتبارها قوانين منظمة، منها ما يتعلق بالقضاء وشؤون الاسرة والتجارة وإلى ما ذلك من جوانب مختلفة. وبعد أن أدرك الانسان في بلاد الرافدين تفوقه على غيره من الممالك، أدرك أيضاً مدى اهمية سن الشريعة في صناعة الحضارة. وهذا ما حدث فقد هزم حمورابي مملكة آشور وبدأت شريعة حمورابي بالظهور. حينها بدأ البعض في اللحاق بركب مسيرة التطور، فهناك من ذهب للجيش، وهناك من أمنتهن التجارة أو القضاء كي يكون شريكاً في صناعة الحضارة، ولكن هناك من هو أذكى من الجميع. فعندما كانوا يشاهدون حمورابي يتقدم الموكب المهيب ويسير خلف الإله عشتار، مروراً بوسط مدينة بابل إلى أن يحط رحاله في المعبد ليقوم بطقوس العبادة. وكان من حوله يدركون بأن الدين هو البوابة الاولى نحو المجد، وأن إمتهان وظيفة في الدين هي الأرقى من الناحية الروحية ومن الناحية المجتمعية. ومن خلالها سيدرك أفراد المجتمع بأن رجال الدين هم من يمثلوا الإله خصوصا عندما يشاهدوا حمورابي وهو يمنح الاكراميات لرجال المعبد. وبذلك نالوا احترام المجتمع وسيطروا على قلوبهم، ولم يكتفِ المجتمع بذلك فقد سلم عقله لهم أيضاً فهم في نظرهم نموذج للإنتلجسيا.

هناك مجموعة كبيرة من مجتمعنا تصنف فئة الشيوخ ضمن قائمة الانتلجيسيا، أي نخبة المثقفين القادرين على إحداث التغيير وصناعة المجد والارتقاء بهم في سلم التحضر. ويظهر ذلك من خلال الاحترام الذي يعبر عنه بعض الأفراد. وعلى سبيل المثال: لو دخل شيخ إلى مجلس يكتظ بالحضور، فما ستكون ردة فعل الموجودين غير أنهم سوف يفسحون له المجال ويرحبون به من كل جانب، وقد يلتفوا من حوله محاولين مصافحته. وقد يحدث أن يدخل نفس المجلس أستاذ أو طبيب، ولا يجد نفس الترحيب. وليس هذا من نسج الخيال وإنما هو الواقع الذي لا يختلف فيه اثنان. بالرغم من أن الكثير من الشيوخ لا يحملون شهادات جامعية أو مؤهلات تسمح لهم بالمنافسة، هذا لو كان المقياس أكاديمي. أما من ناحية الأنشطة فأغلب أنشطة الشيوخ مقتصرة على المناسبات الدينية التي لا يتجاوز عددها ثلاثون مناسبة في السنة، بينما المدرس في الاسبوع الواحد قد يصل نشاطه إلى ثلاثون نشاطاً متمثلاً في الحصص الدراسية التي يقدمها.

لقد توارثت المجتمعات في أنحاء المعمورة تقديس من يمثل الدين، حتى سمحت له بطرح ما لا يعنيه أو ما لا يفهمه. فهناك من ذهب للخوض في الحديث عن أنماط الشخصية والأمراض النفسية التي هي من اختصاص علم النفس والطب النفسي، وهناك من راح يناقش نظريات في الفيزياء والكيمياء. وفي المقابل هناك فئة نموذجية رائعة قد اقتصرت أعمالها في إطار التربية، أو حل الخلافات الزوجية ضمن المنظور الاسلامي، ولكن تبقى الفئة الأخيرة ايضا ضمن الانتلجيسيا في منظور الفئة الغالبة من المجتمع. وضمن تلك الفئات هناك فئة أخذت على عاتقها تعديل وتقويم المجتمع. ونقف هنا عند حالة وقوع رجل الدين في شيء مخالف لما جرت العادة عليه. كأن يتحدث عن سلوك ”فردي“ يرى بأنه دخيل أو غير مألوف على المجتمع، كأن تمسك فتاة شرقية بكلب وتسير بين المارة وإن غيرته وحبه لمجتمعه دفعته لأن يتحدث في العلن بشكل أو أسلوب لم يروق للبعض. ومن جهة أخرى فإن الثقة التي أوكلها له المجتمع مسبقاً هي ما دفعته لأن يبادلهم تلك الثقة، وإلا قد يصبح منافقاً في نظر نفسه وفضل أن يضحي بنفسه ويستعد لهجوم متوقع إلا أنه أبى إلا أن تصل رسالته. وإن كنت أرى أنه لم يوفق في الطرح.

لست هنا بصدد فكرة محو علماء الدين عن المجتمع أو اقصائهم، فلولاهم لما استطاع حمورابي أن يثّبت شريعته. ولست مع من يسّلم عقله لهم كما سّلم أخناتون نفسه إلى آمون، فالوسطية هي الحل. وعلى عهدة التاريخ فلا مفر من الشيوخ، وأن الحكم على شخص من موقف واحد هو حكم جائر، خصوصاً عندما ننسى أو نتناسى قائمةً عميقةً من الفضائل.

اختصاصي نفسي في مجمع إرادة للصحة النفسية بالدمام