آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

ماذا عن نشر الشعور في كربلاء؟!

علي محمد عساكر *

السَّلام عَلَيْكَ يَا أبا عَبْدِ اللهِ وَعلَى الأرواحِ الّتي حَلّتْ بِفِنائِكَ، وَأنَاخَت برَحْلِك، عَلَيْكًم مِنِّي سَلامُ اللهِ أبَداً مَا بَقِيتُ وَبَقِيَ الليْلُ وَالنَّهارُ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ العَهْدِ مِنِّي لِزِيَارَتِكُمْ أهْلَ البَيتِ، السَّلام عَلَى الحُسَيْن، وَعَلَى عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ، وَعَلَى أوْلادِ الحُسَيْنِ، وَعَلَى أصْحابِ الحُسَين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سألني أحد الأساتذة الكرام عما ورد في زيارة الناحية المقدسة: «فَلَمَّا رَأَيْنَ النِّسَاءُ جَوَادَكَ مَخْزِيّاً، وَنَظَرْنَ سَرْجَكَ عَلَيْهِ مَلْوِيّاً، بَرَزْنَ مِنَ الْخُدُورِ، نَاشِرَاتِ الشُّعُورِ، عَلَى الْخُدُودِ لَاطِمَاتِ الْوُجُوهِ سَافِرَاتٍ‏، وَبِالْعَوِيلِ دَاعِيَاتٍ، وَبَعْدَ الْعِزِّ مُذَلَّلَاتٍ، وَإِلَى مَصْرَعِكَ مُبَادِرَاتٍ» طالبا مني تعليقا مفصلا ومقنعا ومدعما بالأدلة والبراهين، خصوصا فيما يتعلق بمبادرتهن إلى المصرع ناشرت شعورهن، لاطمات خدودهن.

وبعد شكره لثقته وحسن ظنه وجميل ثنائه، كتبت إليه السطور التالية:

أنت تريد جوابا مقنعا ومدعما بالأدلة، وربما لا أستطيع أن أحقق لك ذلك، ولكني سأورد لك ما أنا مطمئن إليه أكثر، وأراه يصلح أن يكون جوابا، أو توضيحا لهذا المقطع بما فيه من ملابسات، كما سأحاول أن أذكر بعض الأدلة عليه، أو الشواهد المؤيدة له «حسب وجهة نظري القاصرة» أما أن يكون ذلك مقنعا لك أم غير مقنع، قذلك ما لا أستطيع ضمانه، بل هو متروك لك، وأنت من يقيمه ويراه.

وبما أنك تريده جوابا مفصلا ومقنعا ومؤيدا بالأدلة والبراهين، فهذا سيضطرني إلى الاطالة قليلا، فأرجو أن تتحملني بسعة صدرك[1] .

الحقيقية نستطيع أن نضع لهذا النص عدة تصورات، كلها ممكنة في حد ذاتها.

التصور الأول - النص لا يفيد خروج جميع النساء.

إن هذا النص الوارد في زيارة الناحية المقدسة لا يدل على نحو اليقين أن اللواتي خرجن هنّ جميع النساء اللواتي كنا مع سيد الشهداء ، فمن الممكن جدا أن يكون المراد بعضهن ممن ليس لهن من الإيمان والصبر والتحمل ما لزينب وأمثالها من بنات النبوة، كبعض نساء الأنصار، أو بعض الإماء والجواري اللواتي كن مع نساء الإمام الحسين .

أما النساء الهاشميات وخصوصا العظيمات في المرتبة والمقام منهن، كزينب وسكينة «مثلا» لم يخرجن إلى المصرع على تلك الصورة المذكورة في ذلك النص.

وقد يشكل البعض على هذا الكلام بعموم اللفظ «فلما رأين النساء جوادك مخزيا، وعليه السرج ملويا، برزن من الخدور ناشرات الشعور...» فهو تعبير يدل على العموم وخروج الجميع من دون استثناء.

ولكن هذا الإشكال مردود عليه بأن «العموم اللفظي» ليس في كل الموارد تكون دلالته يقينية، ما لم تكن له من الشواهد أو القرائن ما يدل على العموم يقينا، وهو مفقود هنا.

فعموم اللفظ في بعض الموارد تكون دلالته ظنية فلا يعول عليه، أو يفيد الكثرة، أو التبعيض دون الاستغراق، وحينها لا يصح الاحتجاج به.

ولا بأس من تقديم بعض الأمثلة التوضيحية لذلك، ففي القرآن الكريم الله يأمر خليله إبراهيم بأن يؤذن في الناس بالحج، ويخبره بأنهم سيستجيبون له وسيأتون من كل فج عميق، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ[2] .

«وكل» تفيد العموم والاستغراق، لكنها في قوله تعالى: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ وأمثالها من الموارد لا تفيد العموم، وإنما تفيد الكثرة دون الاستغراق.

والتاريخ يقول: إن بني أسد هم الذين دفنوا الإمام الحسين .

ونحن لا نفهم من هذا التعبير - رغم عمومه - أن بني أسد جميعهم قاموا بدفنه، وإنما المراد جماعة منهم.

وحين نقول: ذهب أهل الأحساء إلى الرياض، فقطعا إننا لا نعني ذهاب الجميع، رغم عموم اللفظ.

وهكذا الحال هنا، فتعبير «فلما رأين جوادك مخزيا... برزن من الخدور» لا يدل دلالة يقينية على خروج الجميع، والقول بذلك فقط استنادا إلى هذا النص هو قول بلا دليل.

وإذا صح ذلك انتفى الإشكال، لأنه لا أحد يقول إن جميع النساء اللواتي كن مع الإمام الحسين هن في مرتبة زينب وأمثالها من بنات النبوة.

وبناء على هذا الفرض، وفي حال اعتبرنا خروجهن على الصفة المذكورة في هذا المقطع فيه مخالفة شرعية، وذلك لبروز شعورهن أمام الأجانب مثلا، فهن معذورات في ذلك، غير مؤاخذات عليه، لأنه صدر منهن عن غير قصد، ومن دون وعي، وإنما هو نتيجة الدهشة أو الصدمة التي أفقدتهن صوابهن لاستشهاد الإمام .

فالإنسان في حالة الصدمة قد تصدر منه أفعال لا إرادية، ومن دون التفات منه، وذلك لشدة ذهوله ودهشته، وربما من ذلك ما فعلته «سارة» زوجة إبراهيم الخليل حين سمعت بشرى الملائكة له بأن الله سيرزقه بغلام عليم، وقد نقل القرآن الكريم ردة فعلها في قوله تعالى: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ[3] .

والصرّة هي الصيحة، والمعنى أنها حين سمعت البشرى صاحت، وصكت وجهها، أي لطمته، أو ضربت جبهتها من شدة دهشتها وتعجبها.

وكما أن هذه البشرى المفاجئة جعلت سارة تصيح وتصك وجهها دهشة وتعجبا، كذلك ما جرى على الإمام الحسين جعل أولئك النسوة يخرجن ناشرات الشعور من هول المصيبة، وعظمة وقعها عليهن، وهن معذورات في ذلك، لأنه صدر منهن عن غير قصد، والإنسان إنما يؤاخذ على أقواله وأفعاله التي تصدر منه عن وعي وقصد وإرادة.

وهو ما لفت إليه سماحة الشيخ علي الجزيري بقوله: «هب أنهن خرجن من الخدور إلى مكانٍ يراهن فيه الأجنبي. هب ذلك، هل هذا العمل محرم؟

العملُ المحرمُ هو العمل الذي يصدر عن التفاتٍ واختيارٍ وإرادة، وأما إذا صدر العمل عن ذهول، امرأة نشبت النارُ في بيتها فخرجت، وضعت عباءة على رأسها وخرجت، وكان - مثلا - شعرها يبين، هذه هل يوجد فقيهٌ يفتي بأنها عملت عملاً محرماً؟! خصوصاً في الوهلة الأولى؟! أي في لحظة الخروج من البيت.

في هذه اللحظة هي ذاهلة، والذاهل غير ملتفت، إذا كان غير ملتفت فالتكليف مرفوعٌ عنه.

فإذن هب أنهن خرجن حيث يراهنّ الأجنبي، لا حرمة في هذا العمل إلا إذا كنّ ملتفتاتٍ إلى عملهن، وكيف يلتفت الإنسان إلى عمله في تلك اللحظة؟!

نحن لا نريد أن نتحدث عن تلك اللحظة، تلك اللحظة هي لحظةٌ خاصةٌ في الكون كله، في تاريخ الكون كل الكون، نحن لا شأن لنا بمن لا يعرف من هو الحسين ، نحن نتحدث عن رحل الحسين ، عن النساء اللاتي كن مع الحسين ، هؤلاء يعرفون من هو الحسين ، فاذا حصل ذهول عندهن فهذا هو الطبيعي» [4] .

التصور الثاني - نشر الشعر يختلف عن كشفه:

من الممكن جدا أن يكون جميع النساء برزن من الخدور، وسواء برزن جميعهن أو بعضهن فلا إشكال في البروز في حد ذاته، وإنما الإشكال «كما أتصور» محصور في بروزهن ناشرات للشعور، إذ كيف ينشرن شعورهن أمام الأجانب؟!

ولكن متى التفتنا إلى أن نشر الشعر لا يعني «بالضرورة» كشفه ينتفي الإشكال من أساسه، إذ يمكننا القول: إنهن نشرن شعورهن تحت المقانع وأغطية الرؤوس، وليس خارج ذلك.

بمعنى إنه من الممكن جدا أنهن حين رأين الجواد مقبلا عليهن على تلك الحالة المذكورة في هذا المقطع من الزيارة، رفعن أغطية رؤوسهن، ونشرن شعورهن من هول المصيبة وشدتها، ثم وضعن الأغطية على رؤوسهن وتوجهن إلى مصرعه .

ومثل هذا الأمر طالما حدث وما زال يحدث إلى اليوم، كما هو الحال «مثلا» حين تسمع الأم أن ولدها قد مات نتيجة حادث مأساوي أليم، فتشق جيبها، أو تنشر شعرها، لكنها حين تتوجه لرؤيته في المستشفى أو مكان الحادث تلبس عباءتها وتذهب لذلك.

وعلى كل حال: ليس في هذا المقطع ما يدل على أكثر من أنهن نشرن شعورهن، أما أن نقول بأنهن كشفن عن شعورهن، فهذا قول بلا دليل، والنص لا يساعد عليه إلا على نحو الاحتمال، وهو احتمال لا قيمة له ولا يعول عليه، بل القول بأنهن لبسن أغطية الرأس على الشعر المنشور هو الأولى، وذلك لعدة أسباب:

أولا - العناية الإلهية:

على المستوى الشخصي أعتقد بوجود عناية إلهية خاصة بالعقيلة زينب ومن معها من النساء في كربلاء، ولا أشك أن تلك العناية الإلهية العظيمة هي من أهم «بل أهم» العوامل التي ساعدتهن على الصبر والتحمل لتلك المصائب العظام التي أصابت الإمام الحسين ومن معه في كربلاء.

فالله يشمل عباده - وخصوصا الصالحين منهم - بلطفه وعنايته في أوقات المحنة والابتلاء، تماما كما فعل بأم موسى حين ربط على قلبها لتكون من المؤمنين.

يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[5] .

واللطف الإلهي بأم موسى والذي تبينه هذه الآيات واضح جدا، فقد أوحى إليها سبحانه بأن تقوم بإرضاعه ما دامت لا تخاف عليه من فرعون، وأما في حال الخوف فيأمرها أن تلقيه في اليم الذي هو النيل، وينهاها في الوقت ذاته عن الخوف عليه، أو الحزن لفراقه، ويعطيها البشرى بأنه عز وجل سيرده إليها وسيجعله من المرسلين، كما ربط على قلبها ليثبتها ولتكون من المؤمنين.

فهي ألطاف إلهية عظيمة بأم موسى في محنتها بولدها، وكما شملها عز وجل بعنايته ولطفه لتصبر على هذا البلاء، وتتجاوز تلك المحنة العظيمة، فلا شك لدي أنه تعالى شمل العقلية زينب ومن معها بلطفه، وربط على قلوبهن ليساعدهن ذلك على تحمل تلك المصيبة التي دونها كل مصيبة في دنيا الوجود.

ثانيا - وجود الإمام المعصوم:

مع اللطف الإلهي هناك أيضا الإمام المعصوم الذي هو زين العابدين، ولا شك أن الإمام لن يسمح للنساء بالخروج وهن كاشفات عن رؤوسهن، ناشرت لشعورهن أمام الأجانب، كما لا شك أيضا أنهن لن يعصين الإمام ولن يخالفن أمره.

ثالثا - ما ينقله التاريخ عن صبر زينب :

إن تاريخ كربلاء حدثنا عن مواقف بطولية للسيدة زينب يعجز عنها حتى أفذاذ الرجال وأبطالهم، فهي صلوات الله وسلامه عليها «بطلة كربلاء» من دون منافس، ولولا ما أبدته من البطولة في ذلك اليوم العصيب وما بعده لما أمكن للثورة الحسينية أن تنتج وتؤتي ثمارها كل حين بإذن ربها.

فهي القائلة لابن أخيها الإمام زين العابدين حين مروا على الشهداء فرأت ما أصابه من التأثر والألم: «لا يجزعنك ما ترى، فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله ﷺ إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهورا، وأمره إلا علوا» [6] .

وسبق أن تحدثنا في كتابنا «دروس من واقعة كربلاء» عن شيء من بطولة زينب وشجاعتها، فكان مما قلناه: «وعندما نأتي إلى عقيلة الطالبيين فلا نملك إلا أن ننحني إجلالاً وإكباراً لما قدمته في كربلاء من ملاحم بطولية خالدة يعجز عن وصفها البيان.

فقد شاطرت الحوراء أخاها ثورته بالسوية، فنصف أعباء الثورة على عاتق الحسين ونصفها الآخر على عاتقها سلام الله عليها، ونستطيع أن نقول - بكل ثقة واطمئنان -: إنه لولا الحوراء زينب وما قامت به من أدوار جبارة لما أمكن الثورة الحسينية أن تؤتي ثمارها، ولتمكن الجهاز الأموي الحاكم من تشويه حقيقتها، والقضاء عليها وهي في مهدها، ولكن المواقف الزينبية العملاقة هي التي حفظت الثورة وصانتها من التشويه والتضليل، ومكنتها من تحقيق أهدافها النبيلة وغاياتها الشريفة المتمثلة في حفظ بيضة الإسلام، ورعاية الأمة الإسلامية، وانقاذها من الضياع الذي تريده لها الحكومة الأموية الطائشة، التي لاهمّ لها إلا الانتقام من صاحب الرسالة.

فإن المصائب التي حلّت على أهل البيت في كربلاء كانت كفيلة بأن تُفقد الحوراء زينب صوابها، بل وتعجّل بمنيتها، فقد صُبت عليها مصائب لو أنها صُبت على الأيام صرن لياليا، ولكنها لم تسمح لهذه المصائب أن تؤثر عليها، أو تلهيها عن القيام بدورها، بل قابلتها بصبر يدهش العقول، ويحير أولي الألباب، وقد ملكت من الجرأة والشجاعة ما مكنها أن تقف أمام ابن زياد ويزيد بكل قوة وصلابة، وتوجه لهما لاذع القول، وشديد الكلام، غير آبهة بهما ولا بجنودهما، إلى أن فضحت النظام الحاكم، وأزاحت القناع عن وجهه، وأظهرته للناس على حقيقته، وأثبتت لهم كذبه ودجله وظلمه وفساده، كما بينت لهم معالم ثورة أخيها، وعرفتهم بأهدافها السامية، الرامية إلى تحريرهم من ذلّ العبودية للطواغيت، حتى تمكّنت أن تربط الناس بثورة أخيها، وتجعلهم يتفاعلون معها، مما أجج في قلوبهم الثورة ضد الظلم والطغيان، وحرك فيهم الضمير من أجل العمل على تغيير ذلك الوضع المتردي الذي تعيشه الأمة الإسلامية في عهد الحكومة الأموية المستبدة...»

وامرأة بهذا الشموخ، وهذه الشجاعة والصلابة، والقوة في الموقف، يستحيل أن يوصلها حزنها على أخيها إلى حد أن تنشر شعرها أمام الأجانب، أو أن تسمح لمن معها من النساء بفعل ذلك.

التصور الثالث - قد يكون الشعر منشورا قبل مقتل الإمام:

ليس من المستبعد أن نشر شعورهن لم يكن حين سمعن بمقتل الإمام، وأقبل عليهن جواده مخزيا، وعليه السرج ملويا، وإنما هنّ ناشرات شعورهن منذ كن في كربلاء، وقبل مقتل الإمام ، فالموقف الذي هن فيه لا يجعلهن يلتفتن إلى تعديل هندامهن، أو تصفيف شعرهن وتمشيطه.

وما جاء في النص هو أنهن «برزن من الخدور، ناشرات الشعور» أما متى كان هذا النشر؟ فليس بالضرورة أنه حين سمعن بمقتل الإمام، فقد يكون قبل ذلك، والتعبير لا يدل على أكثر من خروجهن على تلك الهيئة، لكنه لا يبين متى كان ذلك منهن.

وكما قلنا: فقد يكون منشورا من قبل، وهن لم يقمن بصفه وتمشيطه لانشغالهن بما هو أعظم وأهم من ذلك.

والخلاصة: إن النساء لم يخرجن إلى مصرع الإمام وهن ناشرات الشعور حاسرات الرؤوس، فكل الأدلة ليس فقط لا تدل على ذلك، بل تثبت ما هو عكسه تماما، والتعبير الذي في المقطع لا يدل على ذلك صراحة كما بينا.

التصور الرابع - قد يكون ذلك المقطع تعبيرا بلاغيا:

يمكن القول: إن هذا المقطع من الزيارة ليس على ظاهره، وإنما هو تعبير بلاغي بقصد بيان عظمة المأساة، ومدى أثرها على النساء.

وهذا شائع الاستعمال في اللغة العربية، والقرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، والخطب البليغة، والقصائد العصماء كلها مشحونة بهذا النوع من التعبيرات البلاغية.

ففي القرآن الكريم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[7] .

فالقرآن يعبر بقوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ في حين أن القائل - حسب بعض الأقوال، كما في مجمع البيان للطبرسي - رجل واحد هو نعيم بن مسعود الأشجعي، وإنما عبر عنه بالناس ليبين مدى إيمان أولئك المؤمنين الذين لم يخشوه، بل زادهم قوله توكلا على الله.

وقد أوضح هذا المعنى السيد عبد الحسين شرف الدين في المراجعة «42» من كتابه المراجعات في تعليقه على هذه الآية بقوله رحمه الله تعالى: «إنما كان القائل نعيم بن مسعود الأشجعي وحده بإجماع المفسرين والمحدثين وأهل الأخبار، فأطلق الله

سبحانه عليه وهو مفرد لفظ الناس وهي للجماعة، تعظيما لشأن الذين لم يصغوا إلى قوله، ولم يعبأوا بإرجافه، وكان أبو سفيان أعطاه عشرا من الإبل على أن يثبط المسلمين ويخوفهم من المشركين، ففعل، وكان مما قال لهم يومئذ: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فكره أكثر المسلمين الخروج بسبب إرجافه، لكن النبي ﷺ خرج في سبعين فارسا ورجعوا سالمين، فنزلت الآية ثناء على السبعين

الذين خرجوا معه ﷺ، غير مبالين بإرجاف من أرجف.

وفي إطلاق لفظ الناس هنا على المفرد نكتة شريفة، لأن الثناء على السبعين الذين خرجوا مع النبي يكون بسببها أبلغ مما لو قال: الذين قال لهم رجل إن الناس قد جمعوا لكم كما لا يخفى.

ولهذه الآية نظائر في الكتاب والسنة وكلام العرب، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ[8] ، وإنما كان الذي بسط يده إليهم رجل واحد من بني محارب يقال له غورث، وقيل إنما هو عمرو بن جحاش من بني النضير، استل السيف فهزّه وهمّ أن يضرب به رسول الله، فمنعه الله عز وجل عن ذلك، في قضية أخرجها المحدثون وأهل الأخبار

والمفسرون، وأوردها ابن هشام في غزوة ذات الرقاع من الجزء الثالث من سيرته.

وقد أطلق الله سبحانه على ذلك الرجل وهو مفرد لفظ قوم، وهي للجماعة، تعظيما لنعمة الله عز وجل عليهم في سلامة نبيهم ﷺ...» إلى آخر كلامه رفع الله مقامه.

ولعله من التعبيرات البلاغية التي يقصد بها الاستعظام والاستنكار، بعض ما جاء في قول السيدة زينب ليزيد بن معاوية: «أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي، ولا من رجالهن ولي...»

فتصفح الوجوه - كما نعلم - يعني إطالة النظر إليها، والتأمل فيها عن قرب، وهو ما نستبعد - وبقوة - حدوثه لبنات الرسالة، بل نقطع بعدم حدوثه، لعناية الله بهن صلوات الله وسلامه عليهن، ولكنها إنما عبرت هذا التعبير لتبين عظمة استنكارها لسبي بنات النبوة وسوقهن من بلد إلى بلد.

وقد قلت في كتابي «عقيلة الوحي» في بيان هذا المعنى: «إني أشك كثيراً في أن المخدرة زينب قد فقدت خدرها، أو شيئاً من خدرها في يوم كربلاء وما بعده من أيام المحن، فقلبي غير مطمئن إلى مثل هذا الكلام، وعقلي يقول لي: إن عناية الله بعقيلة الوحي ورعايته عز وجل لها أعظم وأجل من أن توصلها إلى فقد خدرها، وإلى أن يتفرج الناس عليها حتى وإن كانت مرغمة.

فحاشا لله أن يسمح بهتك ستر بنات النبوة وحريم الرسالة، فإن كان في جهاد أهل البيت وتضحيتهم بأنفسهم في سبيل الله تعالى شرف لهم لا يضاهيه أي شرف، فإن في هتك ستور حريمهم، وابرازهن من خدورهن بين الأعادي والرجال الأجانب حاسرات، مذلّة وإهانة لأهل البيت لا تساويها إهانة، والله أراد تشريف أهل البيت وتعظيمهم لا إهانتهم وإذلالهم، وإن كان حفظ الإسلام توقف على قتل الإمام الحسين ، فهو لم يتوقف على هتك ستر زينب وخدرها، وإنما على جهادها المكمل لثورة أخيها العظيمة.

وفرق كبير جداً بين أن تقوم زينب بالجهاد، وبين أن يقوم الأعداء بهتك خدرها، والاعتداء على حرمتها... ولو حدث ما يدعون لقلب الله عاليها سافلها، وأطبق السموات على الأرض، وأهلك بني أمية وأشياعهم، وأبادهم عن جديد الأرض، وقدّم لهم ما أخّر عنهم من العذاب.

ويدلك على أن زينب لم تترك حجابها حتى في تلك الساعات الحرجة، والظروف الصعبة شهادة حذيم الأسدي بأنه رآها - وهي مسبية - حين دخلت الكوفة وهي خفرة مخدرة.

يقول حذيم: «لم أرَ والله خفرة قط أنطق منها، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي»

ولاحظ كيف ألهاه خدرها عن سبيها، فلم يقل: لم أرَ مسبية، وإنما قال: لم أرَ خفرة.

وأما قولها في الشام ليزيد بن معاوية: «أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن...» فلا يدل على هتك حجاب الهاشميات، وإنما هو من باب الاستعظام لما حدث لهن، وفعله القوم بهن من سبي، وتسيير من بلد إلى بلد، فإن العقيلة زينب ترى أن وقوف بنات رسول الله بين الأجانب - وإن كنّ بكامل حجابهن - فيه اعتداء على حرمتهن، وهتك لخدورهن، إذ كيف يقفن صلوات الله عليهن مثل هذا الموقف، وهن اللواتي ما كان أحد من الناس يرى لهن شخصاً، أو يسمع لهن صوتا؟!»

وكذلك الحال في هذا المقطع من زيارة الناحية المقدسة، ليس بالضرورة أن يكون على ظاهره، فقد يكون من التعبيرات البلاغية في بيان عظمة ما حلّ بالنساء الهاشميات من بلاء، وما نزل بهن من مصيبة بقتل سيد الشهداء بتلك الطريقة الوحشية البشعة.

أتمنى أن أكون قد وفقت في الإجابة ولو بعض التوفيق، وأن يحوي هذا الجواب ولو بعض الأمور الجديدة، أو المكملة، أو الموضحة لسائر ما تفضل به الآخرون من أجوبة وتوضيحات لهذا المقطع، وأعتذر عن الاطالة، فمن أسباب ذلك المحاولة في تلبية طلبك بأن يكون الجواب مفصلا ومقنعا، ومدعما بالأدلة والبراهين، مما جعلني أتوسع في ذكر بعض الوجوه، وأكثر من الاستشهادات والتوضيحات، فإن وفقت في ذلك فالحمد لله، وإلا فمنك المعذرة لعجزي عن تقديم ما يولد لديك القناعة،،، والسلام.

العاشرة وخمسون دقيقة من مساء يوم الخميس «ليلة الجمعة»

15 محرم 1442 هـ  2 سبتمبر 2020م


[1]  الجواب تضمن الحديث عن جملتين، الأولى: «ناشرت للشعور» والثانية: «على الخدود لاطمات» لكني الآن حذفت ما يتعلق بالجملة الثانية اختصارا، وليكون في موضوع آخر مستقل إن شاء الله.
[2]  سورة الحج الآية 27
[3]  سورة الذاريات الآية 29
[4]  موقع سماحة الشيخ علي الجزيري على الرابط: http://jaziri.net/view.php?id=36
[5]  سورة غافر الآيات 7-10
[6]  بحار الأنوار ج28ص57
[7]  سورة آل عمران الآية 173
[8]  سورة المائدة الآية 11