آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

قارئ يتصبب عرقا في الشتاء

يوسف أحمد الحسن *

عندما يقع القارئ في حب كتاب فإنه يهيم في حروفه، يذوب في أديم صفحاته ويضيع في حضرته، فينسى ما هو فيه.. يعيش النهار في منتصف الليل، ويشعر بسكون الليل وسط الضجيج.. يتصبب عرقا في الشتاء عند قراءة نص يتحدث عن الصيف، وترتجف أطرافه عندما يقرأ في آخر عن ذلك القبو البارد في منزل متهالك في حي فقير.. يتهلل وجهه ويشعر بالنشوة عندما ينتصر بطل القصة حد الصراخ، وتتساقط دموعه وقد ينتحب عندما يخون الحبيب حبيبته التي أخلصت له وضحت من أجله بالغالي والنفيس وانتظرت عودته طويلا.. يعيد قراءة الفصل ثانية وثالثة ورابعة من أجل أن يتأكد أنه بالفعل هجرها متسائلا «ربما قبل أن تتساءل الحبيبة نفسها» كيف طاوعه قلبه أن يفعلها! ما أخونكم أيها الرجال!!

ينصهر القارئ مع الكتاب حتى يصبحا كيانا واحدا، ويتسامى مع صفحاته حد التجلي.. يسرع في قراءة بعض الصفحات من أجل معرفة فكرة يماطل الكاتب في طرحها، ويتشبث بأخرى من أجل أن يتذوق مفردات جميلة مرت به، وربما أغلق الكتاب لساعات أو أيام مخافة أن يحصل ما لا يحمد عقباه..

هل من المعقول أن يموت الحبيب في هذه الليلة الذي تنتظره فيها حبيبته على وجبة العشاء التي طالما أحبها وانتظرها؟ أعرف قارئا توقف أياما عن القراءة قبل إكمال الرواية لأنه كان يخشى ذلك.

تبا لهذه الرموز السوداء المتشابكة التي يسمونها حروفا.. سحقا لهذه الأشكال الصغيرة الجامدة على صفحات الأوراق الحارة! كيف لها أن تفعل هذا الفعل بنا؟ وكيف لنا نحن أن نصدقها!

بعض النصوص تستفزك وتستخرج أسوأ ما فيك كاشفة دهاليز نفسيتك، وبعضها يربت على كتفيك قائلا لك أنت على حق. بعضها تستشعره كماء دافئ يتحرك ببطء على جسمك المتعب.. وبعضها تشعر به وكأنه يقوم بتدليك جسمك لتعود بعد قراءته منتعشا منتشيا كشاب في العشرين من عمره. بعض النصوص وعند الانتهاء منها تشعر بالحاجة إلى عكاز لكي تخطو إلى سريرك.. ومنها من يفجر في كوامن نفسك أسمى آيات الجمال والكمال والروحانية ويحلق معك في آفاق رحبة من المحبة والتسامح.. بينما يكشف بعضها الآخر عن الجوانب المظلمة من النفس البشرية في أسوأ حالاتها.

هذه المشاعر التي تنتاب شريحة من القراء تعتمد على جانبين الأول هو الكاتب وصدق مشاعره وحسن توظيفه للمعرفة التي يمتلكها ودقة اختياره للمفردات لعكس هذه المعرفة، والثاني هو القارئ نفسه ومدى وعيه واستيعابه لما يقرأ وتفاعله واندماجه مع المادة المقروءة.

إنها قصة عشق تلك التي تجمع القارئ الواعي بالكتاب لا أحد يعلم كيف بدأت ولا ما إذا كانت ستنتهي أم لا.