آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

حساسية القومية للدين.. خطأ فكري وغباء سياسي

الدكتور أحمد فتح الله *

قال البروفيسور وليام ماركس الأستاذ في ”كوليج دو فرانس“ «Collège de France» في مقال في صحيفة ”لوموند“ «Le Monde» الفرنسية[1] ، نجح الإرهابيون في وضع فخ «مصيدة» لإغراء فرنسا في الدخول في حرب رمزية ضد الإسلام، تحت ذريعة مواجهة الهجمات الإسلامية التي ضربتها. رغم أنه يتفهم أن المقاومة المطلقة للترهيب هي رد الفعل الأوليّ الطبيعي على كل هجوم، تساءل البروفيسور ماركس هل من المناسب التعبير عن ذلك بعرض صور ورسوم تسخر من الأديان في الفضاء العام كما حدث في مدينتي تولوز ومونبلييه؟!

وأضاف أن الذي ساعد ”الإرهابيين“ على وضع الفخ هو ضعف فرنسي متأصل يتعلق بما تجده الجمهورية من صعوبة في إعطاء مكان للظاهرة الدينية، وكأن الأديان في حد ذاتها تشكل تهديدا للسلم المدني.

ورد الكاتب هذه الصعوبة إلى أسباب تاريخية تعود إلى ما قبل الثورة، أيام المناكفات والمشاجرات مع الكنيسة الغاليكانية، خاصة أن الكنيسة لدى الفرنسيين أقل قداسة من المدرسة، في حين أن الدول الأوروبية المجاورة لفرنسا ليست لديها مثل هذه الأحكام المسبقة، حسب رأي الكاتب.

الخطأ التربوي الكبير

يقول ماركس عرضت الفنادق الإقليمية في تولوز ومونبلييه على واجهاتها يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي رسوم شارلي إيبدو الكاريكاتيرية التي تستهدف الإسلام، ردا على اغتيال المعلم صمويل باتي، بل إن البعض يود عرضها في جميع المدارس، مشيرًا إلى أن الرد عليها جاء سريعًا عبر البحر الأبيض المتوسط ومضيق البوسفور، بدوس المتظاهرين العَلَم الفرنسي والدعوة لمقاطعة منتجات فرنسا باعتبارها دولة معادية للمسلمين بشكل رسمي، وإن كان بعض ذلك يعود إلى التلاعب من قبل بعض القادة في تلك الدول، بالكلمات التي أدلى بها رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون.

يشدد الكاتب على أنه يجب الحفاظ على العقل في هذه القضية، مع أنه من الطبيعي عندما يُقتل معلم بوحشية أثناء تأدية واجبه، أن تثور العاطفة العامة ويكون رد الفعل الأول هو تأكيد المقاومة المطلقة ضد كل أنواع التخويف ومحاولات تقييد حرية التعبير، لكن، في ذات الوقت ليس من المناسب أن تعرض في الفضاء العام، ناهيك عن المباني الرسمية، صور تسخر من الأديان، وربما تكون صادمة للبعض، خاصة ”المؤمنين.“

المفارقة، كما يصفها ماركس، هي أن صموئيل باتي «المعلم» نفسه، على العكس من ذلك، اتخذ احتياطات لا حصر لها قبل عرض مثل هذه الصور على طلابه، ودعوته لهم إلى النظر بعيدًا إذا لزم الأمر. من أجل هذه الحساسية التربوية، يبين ماركس، يبدو لنا بحق كمدرس نموذجي، يحترم الضمير، ولهذا السبب يبدو اغتياله لنا أكثر حقارة. ثم يتساءل: ولكن كيف يمكنك أن تنظر بعيدًا عن الرسوم الكاريكاتورية عندما يتم عرضها في مبنى رسمي؟

نقد وظيفة الكاريكاتير

وبعد أن مجّد الكاتب المعلم واعتبره مربيا مثاليَّا، قال إن الإخلاص الذي ندين به لذكراه يتطلب فهمًا أفضل لطبيعة ووظيفة الرسوم الكاريكاتيرية، إذ إنها ليست صورًا محايدة، بل هي أسلحة هزلية ومثيرة للجدل، وفن الكاريكاتير مثل الكوميديا والسخريَّة، لا يمكن فهمه إلا في سياق مجتمع يفهم رمزيته ومحتواه الأيديولوجي، خارج هذا الإطار، سيظهر بالضرورة في غير محله، وغير مناسب، بل تهجم عدوانيّ مقصود.

ويرى بروفيسور ماركس أن الرسوم الكاريكاتيرية يمكن أن تعرض في أماكن لا تتسم بالمخاطرة بأن يساء فهمها، على سبيل المثال، الصحف والكتب التي لا يقرؤها سوى من يريد قراءتها، والمتاحف والمعارض والمكتبات؛ ويرى أنه من غير المناسب عرضها في ساحات مفتوحة لجميع العيون وإضفاء الطابع المؤسسي عليها، فلا يمكن أن يكون الكاريكاتير رايةَ حشدٍ وطني.

وتساءل الكاتب هل من الممكن أن تظل فرنسا، التي تمثل بوتقة التحرر في مواجهة الكنيسة والقوى الظلامية، مخلصة للتقاليد الوطنية للكوميديا المتحررة - تقاليد رابليه وفولتير - إذا رفضت نشر هذه الرسوم الكاريكاتيرية دون قيود؟ ويجيب، أن فولتير لم يوافق على الاستخدام العام والرسمي للرسوم الكاريكاتيرية المناهضة للدين، بل كان هدفه المثالي هو التعايش السلمي بين جميع الأديان، وبين المؤمنين وغير المؤمنين مع احترام بعضهم بعضا في الأماكن العامة، كما قال في الرسائل الفلسفية عندما وصف إنجلترا بأنها مدينة فاضلة فيها اليهود و”المحمديون“ «أي المسلمون» والمسيحيون يعاملون بعضهم بعضا كما لو كانوا من الدين نفسه.

لماذا الحساسية تجاه الدين

يصر ماركس على أن الإخلاص لروح فولتير وروح صموئيل باتي، يأتي بتعزيز روح الوفاق بين الأديان، وتقبل الظاهرة الدينية كجزء لا يتجزأ من الثقافة بشكل عام، ويذكر الفرنسيين أن مدرسا فرنسيًّا عوقب عام 2017 لتقديمه مقاطع من الكتاب المقدس لطلابه للعمل عليها من منظور ثقافي بحت.

الحساسية القومية تجاه الدين في فرنسا، يؤكد الكاتب، تمثل خطأً فكريًّا وخطيئةَ سياسيَّة، لأنها تنظر إلى أي علامة للانتماء الديني هي مناهضة للجمهورية، خاصة أن حجب البعد الثقافي والعاطفي للأديان يؤدي إلى تجاوزات خطيرة وسوء فهم يستغلها الإرهابيون.

الأديان، في نظر البروفيسور ماركس، تظل حقيقة تأسيسية للماضي والحاضر، ولا يمكن بناء مستقبل إلا على الاعتراف بمثل هذه الحقيقة، وفتح مساحة عامة غير هجومية ومسالمة بل ومرحبة بالجميع، ”لأن هذه هي العلمانية الحقيقة“.

[1]  عن صحيفة ”لوموند“ Le Monde الفرنسية، 4 نوفمبر 2020، بتصرف. عنوان المقال: ”L`allergie nationale au fait religieux est une erreur intellectuelle et une faute politique“
تاروت - القطيف