آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:06 ص

ذات البين

محمد أحمد التاروتي *

المساعي الحميدة لرأب الصدع، وتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين، تفرضها الثوابت الدينية والقواعد الأخلاقية، لاسيما وان الخلافات والخصومات تلقي بظلالها على الجميع، فهي تبدأ بشكل ضيق ومحدود، ولكنها سرعان ما تتحول الى سلوك عام، انطلاقا من قناعات بعضها بدافع ”الحب“، والمساندة لاحد الاطرف، والبعض الاخر مرتبط بعوامل ”مصلحية“، مما يفرض انتهاج سياسة تتوافق مع وجهة نظر احد المتخاصمين، بحيث يقود لانقسام كبير في جدار البيئة الاجتماعية الواحدة.

الاختلافات في وجهات النظرة ظاهرة صحية، باعتبارها جزء من حرية التفكير، بالإضافة لكون الاختلافات عنصرا أساسيا، في التكامل الفكري لدى البشر، بيد ان تحويل الاختلافات الى خلافات عميقة، ينم عن وجود ”نوايا غير صادقة“، خصوصا وان العملية لا تخرج عن اطار الاجتهادات البشرية، مما يتطلب التحلي بالروح ”الرياضية“، وعدم الانسياق وراء المخاوف الوهمية، والعمل على ترجمة تلك الهواجس، عبر توجيه الانتقادات اللاذعة، والعمل على الاستفزاز بطريقة غير مقبولة على الاطلاق.

وجود اطراف قادرة على جسر هوة الخلافات والخصومات، عنصر أساسي في إبقاء الاختلافات ضمن الوضع الطبيعي أولا، والحيلولة دون تفاقم الأوضاع، وإبقاء الأمور تحت السيطرة ثانيا، الامر الذي يساعد في احتواء الأوضاع بشكل سريع، مما ينعكس على إزالة الخلافات وانهاء أسباب التوتر الحاصل، نظرا لادراك الجميع خطورة الخصومات على المجتمع، باعتبارها فيروس قادر على تلويث مناخ الوئام، بين مختلف الشرائح الاجتماعية، ”إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ“.

امتلاك الحكمة، والقدرة على التحرك بسهولة، وكذلك القبول من الأطراف المتخاصمة، ووجود رغبة صادقة للصلح، عناصر أساسية في اطراف المساعدة الحميدة، فالافتقار لاحدى تلك الأمور يفقد التحركات الجادة مصداقيتها، ويجعلها غير قادرة على إيجاد الحلول المناسبة، نظرا لانعدام الاشتراطات الأساسية للنجاح في مهمة ”اصلاح ذات البين“، وبالتالي فان عملية إعادة الوئام للمتخاصمين ليست سهلة، فهي بحاجة للتحلي بالحكمة والروية والصبر، بهدف انضاج ”الطبخة“ على نار هادئة، خصوصا وان التسرع ينسف تلك الجهود في الغالب، مما يستدعي التحرك وفق مبادئ مشتركة قبل الدخول في نقاط الاختلافات، فالعملية بحاجة الى جهد كبير قبل الوصول الى المصالحة الشاملة.

التكتم الشديد، والتحرك في الخفاء، بعيدا عن الضجيج الإعلامي، يخدم المساعي الحميدة، ويساعد في تسريع الخطى، نحو انهاء الخصومة، لاسيما وان الأطراف المتخاصمة تحرص على إبقاء تحركات ”اصلاح ذات البين“ ضمن الاطار الضيق، نظرا لحساسية الموقف أولا، وعدم وجود مصلحة لاخراجها تلك التحركات للعلن ثانيا، مما يفرض انتهاج سياسة ”السرية“ بالدرجة الأولى، خصوصا وان الأطراف المتخاصمة تحاول الظهور بمظهر صاحب الحق، في اتخاذ قرار ”الخصومة“، وبالتالي فان اعلان الرغبة في إعادة الوئام، يجعل احد الأطراف المتخاصمة في موقف لا يحسد عليه، سواء امام البيئة الحاضنة، او التشكيك في مصداقية أسباب الخصومة، الامر الذي يدفع باتجاه ”السرية“، وعدم البوح بالمساعي الحميدة، قبل انضاج المهمة بشكل كامل.

ادراك اطراف ”اصلاح ذات البين“ بالتداعيات الخطيرة، لاستمرارية الخصومة، يشكل احد العناصر الأساسية وراء الإصرار على استكمال المهمة، وعدم الاستسلام او التنازل بمجرد فشل المحاولة الأولى، خصوصا وان الخصومة لا تصب في مصلحة ”البيئة الاجتماعية“، سواء بالنسبة لنشر مثل هذه الثقافة ”المريضة“، او ادخال مفاهيم خطيرة ذات علاقة مباشرة بالمصير المشترك، وبالتالي فان ”اصلاح ذات البين“ يمثل طوق النجاة لجميع الأطراف، خصوصا وان الخسائر المترتبة على الخصومة كبيرة، فالجميع خاسر والكل يعمل بوعي او بدون وعي على اغراق المركب، جراء التعنت والعناد، في سبيل تحقيق بعض المصالح، على حساب المصالح المشتركة.

كاتب صحفي