آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

وداعا أسطورة كرة القدم «6»

عبد العظيم شلي

أيها الفتى الذهبي يا عاشق الكرة منذ نعومة أظفارك داعبت المستديرة بلعب وفن يفوق ردح الرادحين فقد أغضبتهم مرارا وتكرارا، فكانوا لك بالمرصاد، لقد نستك الصافرة، وتغافلت عنك عيون الحكام، لكن عين الكاميرا وثقت ما تعرضت له من أذى.

كم صافرة تغافلت عن أخطاء متعمدة في حقك طوال لعبك في كأس العالم بأسبانيا 82، فقد عانيت ما عانيت من ظلم الصافرة، أي إجحاف مورس ضدك.

صافرة صاحية أم نائمة، لكن ما خطب تلك الصافرة الدخيلة التي أحدثت ضجيجا وصخب في أول مونديال تشارك فيه، لقد خلفت مشهدا مربكا لم يتصور وقوعه أحد في هكذا بطولة عالمية، حدث شاهدته وأبصرته عيون الملايين، وتناقلته محطات التلفزة لغرابته وأصبح مادة دسمة للصحافة والإعلام.

وتعود أصل الحكاية لإطلاق صوت صافرة أثناء سير مباراة الأزرقين فرنسا وممثل العرب الثاني المنتخب الكويتي، ويكاد الوقت يشارف على انتهاء المقابلة، فجأة توقفت الأرجل عن ركل الكرة وعمت الحيرة أرجاء الملعب، مرت لحظات قلق وتوتر لم تشهدها كل بطولات كأس العالم حتى الآن.

الكاميرا ترصد غضب الشيخ فهد الأحمد الصباح رئيس الاتحاد الكويتي لكرة القدم، وهو يترجل من وسط المنصة عابرا بين الضيوف، وكبار الشخصيات تنظر إليه بدهشة، عيناه تتطاير منها شررا، ملوحا بيديه بحركة يفهم منها دعوة لاعبيه بالانسحاب، اعتراضا على قرار الحكم.

لم يكتف الشيخ فهد بالوقوف عند حدود المنصة، بل واصل طريقه إلى أرضية الملعب متجاوزا كل شيء، شاهرا يده ولسانه، متشحا بزيه العربي، مطالبا أفراد فريقه بالخرج فورا وعدم تكملة الدقائق الأخيرة من عمر المباراة، يا له من غضب تفجر عقب تسجيل فرنسا هدفها الرابع في الشباك الكويتية، والذي ظن اللاعبون الكويتيون بأنه تسلل حينما سمعوا صوت الصافرة قبل ولوج الكرة جوف المرمى، مما جعلهم غير مكترثين في الدفاع عن مرماهم، لكن الحكم أطلق صافرته معلنا احتساب الهدف، فرحة فرنسية يقابلها اعتراض كويتي، اندفع اللاعبون جميعا نحو الحكم، طوقته الأجساد المبللة بالعرق والأنفاس اللاهثة، وحاصرته الأفواه المجادلة، نقاش عال وحدة كلام، اشتباه تحول لنزاع أشبه ب «هوشة جهال».

الكل يتابع بترقب وحذر، إصرار كويتي بمساومة، إما إلغاء الهدف أو الانسحاب فورا، الحكم مرتبك في مشهد لا يحسد عليه والذنب ليس ذنبه بل ذنب الصافرة التي أطلقها شخص من الجمهور، صوت أتى من فم مجهول، وليس من فم الحكم السوفييتي، جدال دار بين شد وجذب وإصرار مستميت من قبل الكويتيين أتى أو كله على مضض وسط حرارة الصيف الضاغطة على الأعصاب، اقتنع حكم المباراة «ميروسلاف ستوبا» بعدم صحة الهدف، مما أثار حفيظة الفريق الفرنسي ومدربه «ميشيل هيدالجو» الذي كاد أن يعتدي على الحكم لولا تدخل قوات الأمن يحسب لتحرك لشيخ فهد الأحمد في تغيير قرار الحكم، مرت لحظات عصيبة حبست الأنفاس، وسط احتجاجات صاخبة، أسفرت في النهاية عن إلغاء حكم المباراة الهدف المختلف عليه، شطبت الساعة الاكترونية المنتصبة في الملعب الهدف الرابع، ثم أعلنت صافرة الحكم اشارة استأنف اللعب ثانية لصالح المنتخب الكويتي ضربة مرمى، وماهي الا لحظات بين كر وفر، ونقلات فرنسية متبادلة، يقودها ”مشيل بلاتيني“ هجمة مباغتة انتهت بتسجيل هدف آخر، تراقصت الكرة في الشباك الكويتية والحارس احمد الطرابلسي لايلوي على فعل أي شيء، صاح الديوك فرحين بعودة النتيجة كما كانت عليه، انتهت المباراة ب 4 لفرنسا مقابل هدف واحد للكويت، وقال قائل ”كأنك يا أبوزيد ماغزيت“.

إشهار فزعة أم إعلان فوضى؟، عصبية وحمية تحركت أم مشهد تولد من ظلم صافرة، لقطات كانت مبثوثة على الهواء كل فسرها على هواه، تلك لحظات مثيرة أبصرتها الملايين عبر شاشات التلفزة، أثارت استهجان الصحافة في كل مكان وبانتقادات لاذعة من قبل المسؤولين هنا وهناك وسخط المعنيين والمراقبين المنضوين تحت راية الفيفا، وأيضا من ليس لهم شأن بالكرة أضرموا نار الكلام تهييجا على بني يعرب، مشهد لا ينسى أشبه ما يكون حدوثه في فرق الحواري وليس أمام أنظار العالم.

بعد انقضاء المباراة أقر الفيفا بصحة الهدف وقام بتوبيخ الحكم وطرده فورا من المونديال، وانزلوا عقوبة قاسية ضده بحرمانه نهائيا من التحكيم مدى الحياة!، وقد وجه الفيفا تحذيرا للشيخ فهد الأحمد وتغريمه 12 ألف دولار!!.

كان شعوري في ذلك الموقف العصيب مختلطا وأنا أرى الشيخ فهد الأحمد يلوح بيديه على مرأى من العالم، فقد صافحته قبل عدة أشهر حينما رأيته صدفة يتجول برفقة زميل له بشارع الوزير بالرياض ليلا قبل مباراة السعودية والكويت ضمن تصفيات آسيا النهائية المؤدية لكأس العالم 82، أوقفت الاثنين بعفوية مرحبا بهما في وطنهما الثاني وصافحني بترحاب وكان يرافقني زميلي أحمد زويد من بلدة القارة بالإحساء، سلام دون نبس كلمة حول المباراة المرتقبة والتي كسبها المنتخب الكويتي واحد صفر سجله عبد العزيز العنبري.

حضور الأزرق الكويتي في كأس العالم يتيما فقط مرة واحدة ولم يستطع المعاودة ثانية إنه حضور مستحق وبغض النظر عن نتائج الفريق من خسارتين وتعادل، لكن حضور كروي مشرف، ومع الأسف صاحبه موقفا غريبا لا ينسى من الذاكرة، وصنف ضمن 12 موقفا مثيرا في جميع المونديالات.

ومن طريف ما يروى بأن الشيخ فهد الأحمد أراد أن يدخل جملين في أول مباراة يخوضها المنتخب الكويتي مع تشيكوسلوفاكيا، بهدف استذكار التاريخ العربي الآفل في بلاد الأندلس الذي ظل لمدة 8 قرون ثم غربت شمسه، وتيمنا بذاك الإرث وعلي نهج الفاتحين الذين دانت لهم الأرض ومن عليها ها هم الأحفاد عادوا يحيون الأمجاد ولو من بوابة الكرة، هكذا كانت الفكرة، إنه استحضار رمزي للسير على خطى الأجداد الذين عمروا الديار وتركوا خلفهم آثارا خالدة، لكن جفت أقلام ومعها دموع على بكائية الفردوس المفقود، لن يفيد الترميز وعبادة التخيل، بالعودة إلى يازمان الوصل، الذي مضى عليه 500 عام.

التاريخ لا يعيد نفسه وشيء من حمى الكرة فيه تنفيس وتسلية للخاطر.

كانت تعويذة المنتخب الكويتي في كأس العالم 82 هو ”الجمل العربي“ والذي جلب من المغرب، ليكون برفقة الوفد الكويتي ولكن عارضت دخوله السلطات الأسبانية إلى أراضيها ولكن الشيخ فهد الأحمد هددهم بالانسحاب من الدورة وضجت الصحافة بذلك وتهكمت، وتم الاستجابة لطلبه بشرط عدم دخوله إلى أرضية الملاعب وأصر على ذلك أيضا وتجددت معارضته بشدة من قبل اللجنة المنظمة القائمة على المونديال بعدم السماح بدخول جمال الصحراء للملعب نهائيا، قيل خوفا من رمي روثها على المضمار، ورأي يقول: لو سمح بذلك غدا ستدخل حيوانات من كل شكل ولون.

تم استعراض الجمل خلال تنقل الوفد الكويتي في المدن الأسبانية التي لعب فيها، بالباو وبلد الوليد، وإيقافه عند بوابة الفندق وعلى مشارف المقاهي، يتجولون به في الشوارع بصحبة الفرق الشعبية الكويتية ومكتوب عليه «جملنا هو الفائز»!.

وخلال 8 سنوات فكرة الجمال لم تبارح مخيلة فهد الأحمد عاد وأحضرها في افتتاح دورة الخليج العاشرة سنة 90 على أرض الكويت، وقد أغضبت جارتها الكبرى «السعودية» وأعلنت انسحابها من الدورة وكان المغزى سياسيا بعيدا عن روح المحبة والأخلاق الرياضية.

أطلق أحد الزملاء تعليقا هزليا بعد هزيمة المنتخب الكويتي بالأربعة من الكتيبة الفرنسية في مونديال 82 قائلا، ”يستاهلوا الهزيمة، لأنهم لعبوا وهم فاطرين في نهار رمضان ولم يراعوا حرمة الشهر، لو صاموا لصامت الأهداف عن شباكهم“!.

بعد هزيمة الجمل أمام صياح الديوك نشرت صحيفة فرنسية عنوانا عريضا «هل تعب الجمل الكويتي»! وخسر المنتخب الكويتي من منتخب إنجلترا صفر لواحد، وظلت في جعبته نقطة واحدة من أول مباراة لم تكن كافية جعلته يودع البطولة من أوسع أبوابها.

وتم إهداء الجمل إلى أحد حدائق الحيوانات ينتظر حادي العيس الضائع بين حروب الطوائف.

حقيقة يسجل للمنتخب الكويتي بأنه أول فريق كرة قدم عربي في قارة آسيا يشارك في المونديال العالمي، لكن هذا التواجد السباق خلف موقفا لا يمحى من ذاكرة مونديال 82، واعتبر الهدف الملغي من أغرب اللحظات في تاريخ كأس العالم.

في الصف المدرسي اثنان لا ينسيان المشاكس والشاطر، واللعب ليس استثناء.