آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:08 ص

قراءة الشعر بوصفها حرية

محمد الحرز * صحيفة اليوم

هناك فئة من قراء الشعر، الذين يعتبرون أنفسهم، بحكم تمرسهم في استخدام أدواتهم الفنية والمنهجية، خبراء في التعامل مع النصوص والتجارب الشعرية، تعطي لنفسها الحق في أن تصدر أحكاما قيمية أو معيارية حول هذه التجربة أو تلك، سواء جاءت بحسن نية أو بخلافها.

هل هذه مشكلة أزلية لا فكاك منها، تجري مجرى الطبيعة في كل مجتمع أو في كل ثقافة؟ قد يبدو الأمر كذلك من زاويتين: الأولى هو ما يتصل بالطبيعة الشعرية كونها طبيعة لا يمكن القبض عليها أو الإمساك بها كأي شيء محسوس يتجلى أمامك وتمسكه بكلتا يديك. لكنها شيء غامض، مبهم، يرتبط بالأحاسيس والمشاعر الإنسانية الداخلية من جهة، وبالكون والعالم ونظام العلاقات التي تحكم بين كائناته من جهة أخرى.

أما الزاوية الأخرى فهي ما يتصل بالوسيط اللغوي الذي حاولت الجهود البشرية من خلاله، منذ أن استخدمته كوسيلة اتصال فيما بينها، فهم الطبيعة الكامنة خلف ما نسميه الشعر: مكوناته وخصائصه ومصادره، حيث قيل الكثير حول هذه الطبيعة، والموروث الثقافي والمعرفي عند شعوب العالم ترك خلفه ما يفيض عن الكأس أو ما يسد الأفق من كثرة المخطوطات والكتب.

بيد أن كل هذه الجهود الكبيرة لم تستطع اللغة أن تحقق الرغبة الكامنة عند الإنسان في فهم ما ينطوي عليه الشعر من حقيقة مثلها مثل الرغبة التي تحققت فتوحاتها عنده في مجال العلم.

لذلك قلنا إنها مشكلة أزلية لا تشبه في هيئتها وطبيعتها سوى طبيعة الوحي في الأديان التوحيدية والتي لا يمكن مقاربتها وفهمها وإدراكها بطريقة عقلانية ومنطقية.

لكن تفهمنا لهذا الجانب من المشكلة باعتبارها عصية على الحل عند الإنسان في كل زمان ومكان، وباعتبارها أيضا مبررا من الانفلات من كل قيد، ومن كل كلام يتأنى فيها إطلاق الأحكام على عواهنه.

هذا التفهم لا يلغي بالضرورة المسؤولية ولا يرفعها عن عاتق هؤلاء القراء للشعر، الذين يدعون الخبرة والتخصص.

وما أعنيه بالمسؤولية هو الرؤية إلى قيمة الحرية بوصفها القيمة التي يمر من خلالها أنبوب التفاعل المشترك بين النص الشعري وقارئه، مهما كانت خلفية هذا القارئ الثقافية والأدبية. وهو تفاعل مفتوح على جميع الاحتمالات التي تفضي إلى المتعة والدهشة والحب. لكن من يصدرون أحكامهم بجرة قلم في كلمة أو كلمتين، يحدون من هذه الحرية أو هذه الاحتمالات. وبالتالي يفوتون على أنفسهم المتعة والدهشة والحب، وإنعاش المخيلة أيضا.

نظرتهم المعيارية التي تتأتى بسبب موقف من الشكل الشعري أو بسبب الدرس الأكاديمي الذي يحتفي في أغلبه بالصرامة المنهجية وبالثنائيات: تقليدي إزاء حداثي أو أسلوبي إزاء دلالي، هي التي تحجب في الوصول إلى مثل هذا التفاعل المشترك.

لكن أليس في هذا الكلام - من جانب آخر - ما يفضي إلى فتح الأبواب على فوضى عارمة وعلى نوع من الخلط بين النصوص التي تحوي كمية كبيرة من الشعرية، والتي تحوي أقل والتي تخلو منها تماما؟!

هناك مسألتان أجدني منحازا إلى الاقتناع، بأننا إذا ما أخذنا بهما كإحدى المكونات المركزية في القراءة، فإن الأبواب قد لا تفتح على مصراعيها، وقد يكون الخلط أقل ضررا.

الأولى الحرية كموقف دلالي، والحرية كموقف أسلوبي.

قد يطول شرحهما في هذا المقام، إذا ما أردنا تفصيل القصد من ورائهما وتوضيحه نظريا وتطبيقيا. لكن اختصارا هناك طرفان: القارئ والنص ثم تأتي الحرية بوصفها نقطة التماس المركزية بينهما. لكنها لا تظهر عيانا ولا تتجلى إلا عبر دهاليز اللغة الشعرية بمكوناتها المختلفة: الدلالية والرمزية والأسلوبية. فالقارئ هنا يحاول أن يعمق خبرته بالحرية عبر دهاليز الدلالة التي ينتجها النص، وفيما هو يحاول مستخدما خبرته الثقافية وأدواته الفنية يغتني النص من خلال اغتناء رمزيته. وإذا لم يغتن فالخلل يقع في العملية التواصلية.