آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 2:22 م

وداعا أسطورة كرة القدم «7»

عبد العظيم شلي

بين ثنايا الأمس سافر بنا صندوق سحري إلى فضاءات متعددة، وأخذنا إلى أقاصي الدنيا ونحن لم نحرك ساكنا، جذبنا دهشة وخطف البصر.

كان نافذتنا المرئية الوحيدة على العالم، أمامه تسمرنا أوقاتا متباينة، تلونت فيه مشاعرنا فرحا وحزنا وعلت أصواتنا لصورة خبر أو غرابة مشهد، كم ضمنا رفقة طيبة مع الأهل والأصحاب، وآنسنا لمة شمل مع عشاق كرة القدم بأعمارنا المختلفة.

تلفزيون أبصرناه بشاشة مقاس 14 وآخر 20 بوصة، مساحة محددة لكن الرؤية واسعة، البعيد قريب من الناظر، والمنزوي واضح وظاهر، وكل زوايا الملعب احتواء، نستشعر كأننا جزء من جمهور المباراة.

وأجمل شيء مشاهدتنا بلا كلفة، لا دفع قيمة تذكرة دخول ولا شراء بطاقة لفتح القنوات المشفرة، بث مجاني بحوزة المشاهدين.

كل دولة تتكفل بشراء حقوق بث المباريات ثم ترسله عبر قنواتها ويستقبله كل من لديه ذلك الصندوق عبر تغطية ضمن نطاق جغرافية حدودها ويصل أحيانا للدول المجاورة حسب قوة إشارة الإرسال.

تلفزيونات الخليج وهبتنا تسلية وفائدة بلا مقابل، استمتاع والبال هادئ، لم يشغلنا اشتراك من أجل رؤية فلم أو مباراة، ولم نكن نعرف لا أجهزة ”رسيفرات“

ولا ”دشات“ ولم يشوشنا بازار المحطات الفضائية لا نائحة منها ولا راقصة، ولا مؤدلجة ولا مسيسة ولا نطيحة ولا متردية، نستقبل بضعة محطات محددة من خلال جهاز الاستقبال ”الانتل - أو الاريل“، الذي نجاهد بتحريكه يمينا أو شمالا بين فترة وأخرى باتجاه هذه المحطة أو تلك، خصوصا إذا هب الهواء وأصبحت الصورة مشوشة نسمعها وحتى لو غضضنا البصر ”تششششش“، وهنا ترتفع المناداة علوا وهبوطا، شخص في السطح وآخر عند التلفزيون، كل يسمع صراخ الآخر:

”ويش بعد، ما طلع شيء - لا، فر اشوية بعد بعد، لا لا، عود ارجع“ سيناريو معتاد بجموح لا يمل، نهدأ ونستريح خلال فصل الصيف فأغلب محطات الخليج صورة بثها واضحة وحسب تعبيرنا الدارج ”ابوظبي طالعة او عمان صافية“.

أثناء بطولة كأس العالم تجتمع كل القنوات تقريبا في بث شبه موحد لنقل وقائع البطولة التي تأتي كل أربع سنوات، فتستقبل حمى المونديال كل البيوت ومعه يحمى الوطيس بين مؤيد ومعارض، والذين لا تعنيهم كرة القدم يغالبهم الضجر، لأن القنوات الرسمية الحكومية هي من تتكفل ببث المباريات كاملة، وخارطة برامجها تنقلب رأسا على عقب كل شيء يتغير، فتؤجل المسلسلات والتمثيليات لما بعد النقل الحي وأحيانا تلغى برامج من أجل ”الكوووورة“، بعض المحطات الخليجية التي تملك قناتين خيارها أفضل بتحويل برامجها المعتادة للقناة الثانية أو بالتناوب.

الشيء الذي لا ينسي بأن بث محطات الخليج مقتصر على ساعات محددة، بداية من الساعة الثالثة عصرا إلى منتصف الليل، بعدها إغلاق تام، ويعاود الافتتاح عصر اليوم التالي، يختلف الوضع أثناء بث المباريات العالمية أو التصفيات القارية وخصوصا الوطنية الهامة وماعدا ذلك البث لا يتجاوز 9 ساعات أو عشر.

كانت مشاهداتنا مقتصرة على بضعة محطات بعدد أصابع اليدين، لا وجود للقنوات الرياضية ولا استديوهات الثرثرة الكروية التي تمتد لساعات طويلة.

كم كنا سعداء بمشاهدة كأس العالم دون دفع أي قرش.

بالأمس مشاهدة كرة القدم بالمجان قنوات مفتوحة لكل الناس، مونديال عالمي متاحة لكل الفقراء، أما اليوم كل شيء تحول إلى سلعة، احتكرت اللعبة الشعبية عند غول الرأسمالية المقيتة، من يدفع يشاهد، رؤية مقابل المال. ذلك زمن عشناه بدفيء الأفئدة وأصبح ذكرى عبقة، يتغنى الوجدان بأجمل لحظاته، نجوم الأمس بريقهم لم يزل لامع، في سماء الذكريات.

كأس العالم 82 بأسبانيا كان حاضرا في جميع المحطات الخليجية الذي بدأ منذ نهاية شهر شعبان إلى منتصف رمضان. عيوننا تترقب موعد المباراة المنتظرة بين عملاقي الكرة، جمهور متعطش لرؤية مباراة الحسم، بين منتخبي إيطاليا والبرازيل لبلوغ دور الثمانية، نحسب الدقائق والثواني لرؤية لقاء القمة بين الاتزوري والسليساو، وعلى غير المعتاد

مر وقت على بداية المباراة دون نقل لها، ترمش عيوننا تخيلا ولساننا يطلق ”چكچكات“ مستمرة، تطوقنا استنفارا، نزفر كل ما لدينا من ضيق وتبرم ”ما صار هالخلل الفني إلا في هالمباراة القوية“، وبين لحظة وأخرى نمني النفس بأن يتم إصلاح الخلل على وجه السرعة، عسانا نحظى بالجزء الأكبر من المباراة، انتصف الوقت وقارب الشوط الأول على الانتهاء، يحذونا الأمل بإصلاح ما بين الشوطين، رشفات شاي، والانتظار لهفة المحتارين، عسى الحظ يبتسم ونرى الشوط الثاني، وأيضا بدأ هو الآخر وزحف بوقته ومضى بسيفه البتار، قطعنا ضيقا وطفشا، وايدينا ”اللحوحة“ تتنقل من محطة لاخرى على امل رؤية الدقائق الاخيرة، لكن المباراة لفظ وقتها انفاسه النهائية ولا علم لنا بماذا اسفرت النتيجة، مباراة حاسمة لابد من فائز واحد - بخروج المغلوب -، املنا في مشاهدة المبارة ولو جزء حي على الهواء تبخر مع رطوبة بحر الخليج، وكل الظنون التي ساورتنا عن عدم نقل المباراة لم تكن في محلها اطلاقا، تبين لنا فيما بعد بأن الامر لم يكن عطلا تقنيا، ولاخللا فنيا كما دار في عقولنا الغافية، عدم البث متعمدا من كل محطات دول الخليج باتفاق ضمني فيما بينهم، السبب يعود بأن حكم مباراة ايطاليا والبرازيل كان اسرائيليا!؟

راديو لندن أذاع نتيجة المباراة بعد انتهائها وتناقل الخبر الأصدقاء، ومن ضمن من أبلغني شخصيا بالنتيجة الصديق الغائب الحاضر ناصر عبد الأمير، قال لي وسط سوق تاروت ”إيطاليا كسرت مجاديف البرازيل ب 3 أهداف مقابل هدفين“، لم أخف استغرابي ودهشتي وأيضا لم أكتم فرحي، لأن خروج البرازيل متنفسا للأرجنتينيين والعكس صحيح. وكم تجادلت بحدة مع أخي عبد الحي الذي لم يكن تعنيه مباريات كأس العالم، إنما يريد أن يتابع حلقات المسلسل الدرامي الكويتي ”بدر الزمان -“ الذي كان يعرض وقت بث المباريات أثناء جلوسنا على مائدة فطور رمضان، تبدأ مقدمة المسلسل ”كان ياماكان في ذاك الزمان، حتى في هذا الزمان، شركان شري كل شيء عنده سري...“، وفي الجهة المقابلة مسلسل أهداف من لاعبي منتخب المجر في شباك هوندوراس بنتيجة 10صفر، وهي أكبر نتيجة حتى الآن في بطولات كؤوس العالم.

مباريات وأحداث عالقة في الذاكرة، لمونديال أسقط كل الرهانات السابقة، التي كانت متجهة صوب أقوى المنتخبات وعلى رأسهم منتخب البرازيل المرصع بالنجوم، لقد ذهبت كل التوقعات أدراج الرياح، وحملت الكأس الذهبية إيطاليا في المباراة الختامية ضد ألمانيا الغربية التي كسبتها بنتيجة 3-1، وبعد هذه المباراة وما تلاها من موقف إيطالي الذي فاجأ العالم، ولم يكن متوقعا، موقف خالد في ذاكرة الملايين، موقف عصي على النسيان، حيث قامت إيطاليا بإهداء فوزها بلقب كأس العالم لمنظمة التحرير الفلسطينية كتحية تضامن مع الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير التي كانت تخوض حربا غير متكافئة ضد العدوان الإسرائيلي الهمجي، تعاطف إيطاليا وهي ليست دولة مسلمة ولا عربية، تعاطف إنساني مع المشردين واللاجئين الفلسطينيين جراء الهجمات البربرية الذي تعرضوا لها طوال حصار بيروت الغربية.

هذا الموقف المعنوي والنبيل أغضب كل من الفيفا وإسرائيل، وتحولت الصحافة العالمية بين مؤيد ومعارض، والناقمون قالوا: ”كيف يهدى لقبا ساميا بمنظور أغلب دول العالم لمجموعة إرهابية“، وتغنت الصحف العربية بالموقف الإيطالي المشرف، بعناوين شتى، ومما جاء فيها ”بعد فوز إيطاليا بمونديال 82 تفاجأ الجميع بما فعله الاتحاد الإيطالي ونجوم إيطاليا عندما أهدوا اللقب الغالي لشعب وأطفال فلسطين، فمن منا كان يتوقع من دولة عربية، الأمر لم يتوقف على الكلام فحسب، بل أن رئيس الاتحاد نفسه أمر بإرسال كأس العالم إلى مقر الاتحاد الفلسطيني في غزة وتم وضعه هناك لفترة طويلة“.

كم رأينا أعلاما فلسطينية وسط معمعة الأفراح الإيطالية وهي تتراقص بهجة بالنصر في شوارع روما.

كلما سجلت إيطاليا هدفا صاح المعلق:

”كل الطرق تؤدي إلى روما“، بالأمس كانت الطرق مغلقة في وجه العتاة واليوم مفتوحة لهم جوا وبرا وبحرا وبالأحضان والقبل!؟

أين نضع حكايات كأس العالم 82، في الأرشيف ونغلقها سكوتا، أم نرميها بحرا، كل الأناشيد التي حفظنه عن ظهر قلب وتبارينا في تسميعها بملء أشداقنا، هل نغادرها إلى غير رجعة كما غادر الشعراء قبلتهم؟

ما حيلة الملتاع إذ الناسك تخلى عن محرابه.

حكايات بطولة 82 أبصرناها عين اليقين من خلال ذلك الصندوق السحري، الذي نقل لنا كرة القدم بجو مختلف وفيها أطل علينا الفتى الذهبي الذي راقص الكرة بخفة وسحر، وهو الآخر له موقف مشابه مع الموقف الإيطالي لكنه مؤجل.