آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 12:40 م

وداعا أسطورة كرة القدم «15»

عبد العظيم شلي

برشلونة زهوة عشق ومرسى المحبين، مشجعون يتلاقون في حضن المدينة، يرتدون قمصان الأزرق والأحمر مطبوع عليها صورة الفتى الذهبي، شوق يأخذهم لمواعيد المباريات، يمنون النفس بهز الشباك، على إيقاع ردح قدمه اليسرى، يقلبون الأبصار على مدرجات ”الكامب نو“ يهتفون بصراخ باسمه، دوي يهز أركان المدينة، المتيم معذور في هوى البرسا، والمارد أهداف بلغها، وأخرى تعثرت ولوجا، دقة تمريرات صوبها بقدمه وقدمها على طبق من ذهب، اسكنها رفاقه نشوة نصر.

بين الكر والفر خلاصة موسم أول، لم يبلغ حلم إحراز الدوري وفي الجعبة تحقيق بطولة ”كأس الملك“ بحصيلة 11 هدفا.

انتهى الموسم بشحن نفسي وعدم ارتياح الفتى لأسلوب وطريقة المدرب الألماني ”يودي لاتيك“، تلميحات بالخلاص منه، همسات انزعاج تدور بين اللاعبين، وإشارات تذمر مرسلة، عن مدرب ليس هو الأكفأ، هناك الأفضل، بلغ الأمر لإدارة النادي بشيء من الامتعاض، فقررت فسخ العقد. لملم المدرب حاله راجعا إلى ألمانيا الغربية، ذهب حالا وصرف له مالا، قبض مستحقاته وأخذ المؤجل.

تولى زمام المهمة مدرب أسباني مؤقت لبضعة أشهر، ”خوسيه لويس روميرو“ إلى حين يقع البصر على المدرب الأجدر، بعد بحث ومشاورات اختير مدرب لديه رصيد تحقيق كأس العالم 1978؟ إنه سيزار مينوتي مدرب منتخب الأرجنتين، أتى والخواطر دواخل بهجة من أجل إرضاء عيون الفتى.

وهو القائل في كتابه ”أنا دييجو مارادونا“ تحت عنوان جانبي من فصول الكتاب حول سيرته الذاتية.

مدرب مهووس:

لم أشعر بالسعادة في برشلونة إلا عندما رحل المدرب الألماني، يودي لاتيك، ليخلفه، سيزار مينوتي، لم أتدخل لإحضار مينوتي إلى البرسا، فقط سألني الرئيس نونيز عن رأي فيه، فقلت أنه الرجل المناسب، اصبح برشلونة ممتعا مع مينوتي، فزنا بكأس الملك وكأس الدوري معه، لاتيك كان مهووسا بالجانب البدني. سألت لاتيك يوما، لماذا لا تجرب تلك التمارين معنا لتعرف ما نشعر به، أجابني غدا، لم اكن اتصرف كطفل مدلل.

في صباح أحدى المباريات طرق شوستر باب غرفتي في الثامنة والنصف، قال لي المدرب يردنا أن نتجمع من أجل الجري، كنت نصف نائم، كان ردي، قل له: أنا لن أجري، جاء لاتك بنفسه، قلت من وراء الباب، أنا سأرتاح، في الملعب سوف أجري، أنا معتاد على ذلك،

لو لم يعجبه ذلك فليوقع علي العقوبة، بالنسبة للألمان هذا أمر سهل عليهم، يحتسون الجعة ويركضون، فأنا أفهم أهمية الراحة للجسد، لماذا استيقظ في الثامنة صباحا من أجل الركض، عندما جاء مينوتي تغير الوضع، كل اللاعبين كانوا بحبونه ".

نعم أيها الفتى الجري سهل على الألمان، وثمة كلام يقال.

معروف عن الألمان حضور اللياقة البدنية العالية وعدم التوقف طوال المباراة، لذا اطلقوا على لاعبيهم، مصطلح ”بالمكينات الالمانية“، نسبة لفخر صناعتهم المميزة بالقوة والصلابة ودافعية الحركة، أنتاج مزدهر للعدد والأدوات الثقيلة والخفيفة، والسيارات الراقية الفخمة بماركاته الشهيرة خير برهان، والتي تعد ماكناتها الأقوى من بين سيارات العالم.

لولا رعونة هتلر الذي زجهم في حرب عالمية خاسرة، خرجوا محطمين منهكين وسط دمار هائل وتم تقييدهم في النهاية بشروط الذل والعار، وبإجبارهم بالقوة نحو صناعات معينة لا يحيدون عنها، لولا تورطهم في الحرب العالمية الثانية، لما وقف أحد أمامهم لا في التصنيع الحربي ولا الفضائي.

فهم عباقرة العلم والفلسفة والفن والإنتاج، يقدسون العمل أيما تقديس، الألمان أمة عظيمة، كانت سيدة الأمم.

قبل اختلال موازين القوة.

بالنسبة لعالم التدريب في كرة القدم لكل مدرسة فلسفتها في اللعب، وأيضا التدريب فن لا يجيده الا القليلون، ويبقى لكل مدرب سياسته ونهجه، ومعروف عن المدربين الألمان حزمهم وأن اللياقة عنصر أساسي في تدريبهم، ومؤشر لاعبيهم هم الأفضل لياقة على جميع المنتخبات، ومن قوة لياقة الألمان ونفسهم المكائني العالي، حضورهم الفعال في كؤوس العالم، حيث تدلنا الإحصائيات، بأن ”المانشافت“ الأكثر وصولا لنهائي كأس العالم، والاكثر لعبا في الدور قبل النهائي وأكثر الفرق لعبا لمباريات في كأس العالم.

أيها الفتى، تغير المدرب الألماني الذي لم تتفاعل معه وأحضر ابن وطنك واتت البشائر بنتائج محمودة، لكن ما هذا الصدام بينك وبين رئيس النادي؟ أيمثل هو الأخر كابوسا في وجهك!

يضيق الفتى ذرعا حين يلتقي رئيس نادي برشلونة نونيز، تباينات حوارية بينهما وشطط، والإنصات استجابة شبه كاذبة، والإذعان خضوع لا يحبذه الفتى، شدة تصريحات الرئيس المتصفة بالجدية الكاتلونية، تراكمت يوما بعد يوم، الاثنان يلتقيا في منطقة رمادية ومواقف نافرة، صرامة نونيز مبطنة بضبابية مزعجة من وراء ظهر الفتى، زادة حدتها شررا تلك المواجهة العنيفة التي دار رحاها داخل أروقة النادي، إنها مواجهة ساخنة، شهدها ”الكامب نو“ بعيدة عن الأنظار.

يقول مارادونا: ”وصل خلافي مع نونيز إلى الذروة، قبل مباراة نهائي كأس الملك، حضر نونيز مع رئيس إقليم كاتلونيا جورجي بوير، أخبرنا بأنا كاتلونيا كلها تنتظر تلك المباراة ولابد من الفوز، كنت أريد الفوز بالكأس، لكن بسبب نونيز لم أعد أريد هذا النهائي، أنا وشوستر كنا مدعوين للمشاركة في مباراة اعتزال الألماني بول برايتنر قبل نهائي الكأس، ابن العاهرة نونيز رفض الاستماع لنا حتى ضغط علينا للعب هو ورجال السياسة في كاتلونيا، كنت فخورا بأن الألماني العظيم برايتنر يدعوني لمباراة اعتزاله، كان سيرسل لي طائرة خاصة أنا وشوستر، فماذا فعل نونيز معي؟، أحتجز جواز سفري، كنت أريد قتله، طلبت مقابلته، ذهبت إلى مقره في الكامب نو، فمنعني مساعده من لقائه، قلت وأنا في ثورة غضبي سأنتظر 5 دقائق لو لم أحصل على جواز سفري سأحطم كل تلك الكؤوس، رفض الإنصات إلى مساعديه، الذين نقلوا له تهديدي، بدأت في تكسير الزجاج والكؤوس، أحدثت فوضى كبيرة، شوستر يصرخ، هل أنت مجنون؟، نعم أنا مجنون، في النهاية حصلت على جواز السفر، لكن لم اتمكن من حضور مباراة الاعتزال، هددوني بشرط جزائي، فزنا في نهائي الكأس أمام ريال مدريد الذي كان يدربه السيد ستيفانو“.

للمعلومية عن اللاعب الألماني الذي دعاه مارادونا لحفل اعتزاله ”بول برايتنر“ يطلق عليه جيفارا كرة القدم، للتشابه بينهما شكلا وحركة، اشعث الشعر ذا لحية كثة، فوضوي، ثوري، شيوعي وغريب الأطوار، معجب ب ”ماو تسي تونغ“ قائد الصين العظيم والمناضل الأسطوري تشي غيفارا،

لاعب فذ حقق انجازات خالدة مع الباير والمانشفيت، وهو الذي سجل الهدف الوحيد للألمان في المباراة الختامية لكأس العالم 1982 وبعدها اعتزل اللعب نهائيا.

حين نرى مباراة الغريمين برشلونة والريال التي اشار اليها مارادونا، نجده ممتلئ عنفوانا مرتسما في كل حركاته، العيون لا تدرك مايدور في نفسية المارد من انزعاج متصاعد ضد رئيس النادي وكل ساسة كاتلونيا.

تلك مباراة نهائية حاسمة مثيرة في ملعب البرنابيو، التي شهد هدفا من اقدام الفتى لاينسى، اولجها الشباك بفن وهدوء اعصاب، ومن روعة الهدف جماهير الريال وقفت تحي الفتى على صنيع فنه!.

يقول مارادونا:

”هدف تاريخي في الكلاسيكو: اتذكر مباراة القمة امام ريال مدريد في البرنابيو سجلت هدفا رائعا، ماراثون من منتصف الملعب، هجمة مرتدة راوغت الحارس والمدافع ونقلت الكرة من قائم إلى القائم الٱخر قبل التسجيل، كان يطاردني المدافع خوان خوسيه، كان مخيفا وصاحب لحية طويلة، كان بإمكاني التسجيل، لكني انتظرته حتى يأتي من خلفي، ثم راوغته حتى سقط أرضا وارتطم بالقائم“.

تكمن جمالية هذا الهدف بأنه جاء على ملعب الغريم التقليدي، وسط حشود مناصريه، التي من فرط إعجابها تهب وتقف تحية تقدير بتسفيق حار للفتى، هذا من النادر أن يحدث، فن اللعب يجبرك لاإراديا أن تحي صنيع من فعل.

ايه يابرشلونة النادي والمدينة والإقليم، لديكم أغلى لاعب في العالم يطرب المحبين وينال استحسان الخصوم، كيف تتحملون جنونه!

هل يغض الطرف عنه، ليتماشى ويتوازى مع جنون فنه، مدركون بأن لعبه يطرب الجماهير متعة ومسرة، فلا مناص من قبول شطحاته وحلات الهذيان، فنه الأسر يؤلب عليه الأعداء على حد سواء.