آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

نفحات اجتماعية

شرع الله سبحانه الصوم وعين التشريع على النفس البشرية لإدخالها في منظومة تربوية، تهذب النفس وترفع شأنها عن كل ما يسقطها في أتون العيوب والنقائص والخطايا، والصوم بالغاية المرسومة له دينيا لا يقتصر على مجرد إسقاط التكليف الشرعي من هذه الفريضة، بل يحلق بالإنسان في عالم الفضيلة وصناعة النفس المتكاملة على جميع الأصعدة الروحية والأخلاقية والاجتماعية.

نعم فالصوم تمتد إشعاعاته النورانية على تنظيم العلاقات الاجتماعية على أسس الاحترام والاستقرار وتنميتها، كما تربطها وفق نظام احترام حقوق الآخر والمحافظة عليها من أي تجاوز أو انتهاك مادي أو معنوي، والعبادات التي شرعها الله عز وجل تعمل في إطار مضامين تعمل على تنمية جوانب شخصية الإنسان وتهذيب سلوكياته وفق منظومة القيم والآداب الأخلاقية والاجتماعية، ومنها عبادة الصوم التي تعنى بتجذير صفة التقوى والمنعة من مقارفة المحرمات والمنكرات، فليس هو مجرد إمساك عن الطعام والشراب مع تغييب روح تحسين الأخلاق وبناء السلوكيات الإيجابية، وتطهير نفسه من تلك السلوكيات السلبية والعيوب التي تشوه صورته الأخلاقية الجميلة، وعلى نطاق علاقاته فيربيه الصوم على يقظة الضمير والتعامل مع الآخرين بمحبة واحترام وتعامل راق، وإلا فإن التجاوز على الغير بالغيبة أو الشتم أو الاستهزاء يحول عبادة الصوم إلى فراغ من أي مضمون يعلي شأنه.

ويستظل الصائمون بمظلة التراحم والتكافل وروح الألفة وأواصر الاحترام والمحبة، بل ويبادر كل واحد منه في مضمار صنع المعروف وعمل الخيرات والإحسان للآخرين، إذ أن الصائم يتحرر من قيود الأنانية وتأليه الذات لينطلق في ميدان المشاركة الوجدانية مع الآخرين، فيشعر بالسعادة والإحساس بتحقيق إنجاز كلما قدم شيئا من المساعدة المادية أو المعنوية لغيره، فالشعور بالجوع والعطش في نهار الصوم له غايات ومنها إحساس الصائم بألم الحاجة عند الفقير فيبادر إلى بسط روح العطف والعطاء.

ومن العادات المجتمعية الجميلة تبادل أطباق الطعام بين الجيران والأرحام في شهر رمضان، ويعتبر ذلك من أساليب التواصل التي تعزز الاهتمام بالغير والاطمئنان على أحواله، فالتكاتف بين أفراد المجتمع يحتاج إلى مجموعة من المبادرات التي تقرب بين النفوس وتبسط بينهم الألفة، وموائد الإفطار لا يقصد منها مجرد المشاركة وتفطير الصائم كما في المساجد وغيرها، وإنما المقصد الأهم فيها أن يتلاقى الناس ويتفقدوا بعضهم البعض؛ ليبدأوا مرحلة أخرى من العطاء وتقديم الصدقات والمساعدة للمحتاجين.

كما تشكل اللقاءات على المستوى الأسري والاجتماعي فرصة للتعارف وتبادل الأحاديث الودية، كذلك هناك فرصة متاحة لرأب الصدع وطي ملف الخلافات والقطيعة التي تستمر - وللأسف - لسنوات بين بعض الأفراد، فأين سنجد فرصة تحفها أجواء إيمانية تصفو فيها القلوب وتندحر فيها أحابيل الشيطان الرجيم كأجواء الشهر الكريم، ومن غير المعقول ولا المقبول أن نقبل على رب العالمين طالبين غفران ذنوبنا وقلوبنا قاتمة سوداء على الآخرين، فلا نقبل محاولات إصلاح البين لمسامحتهم وفتح صفحة جديدة منهم.

لنستقبل الشهر الكريم بدعوات التسامح وطي صفحات الخلافات، فإن التهنئة بمقدمه فرصة لتبريد أجواء القطيعة ووصل ما انقطع من حبل المودة، فإن تلك الجوائز السنية المعدة فيه للمتصافحين والداعين لإخوانهم بالغيب سيحرم نفسه منها، ويدخل في زمرة المتخاصمين الذين يكونون في يوم القيامة آخر الناس حسابا.