آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

وداعا أسطورة كرة القدم «21»

عبد العظيم شلي

نجحت عملية الفتى الذهبي بوضع الأطباء مسامير في عظام كاحله، حين أفاق من البنج، تلقى همسات دافئة، وتربيت على يديه، طمأنةً بأن كل شيء على ما يرام، زفوّه بتبريكات، وقابلهم بامتتان لكل الفريق الطبي والدكتور الجراح، رمقهم بابتسامات وقبلات هوائية، شكرهم فردا فردا على أدائهم الرائع، داعبوه بمحبة بالغة، بضعة أيام وأُذن له بالخروج من المستشفى، من المنفى الاختياري، تنفس للشمس ونظر للضياء، عيون فرح، وشهقات أكسجين، حياة جديدة بعيدة عن رائحة المكان وكآبته، زفرة آلام مبرحة، هونتها نظرات ملائكة الرحمة الحنونة، تعليمات صحية مشددة تلاحقه باتصلات وزيارات لمقر اقامته، حراك محسوب بقدر، التزام راحة لمدة ستة أشهر بعيدا عن ضجيج الملاعب وصخب الكرة.

جملة تساؤلات دارت واستدارت، عن لاعب يداعب الكرة كل يوم وان لم يجد راقص حبة برتقالة، مهووس

باللعب حد النخاع، لم يدر في خلده أن يبتعد عن معشوقته يوما ما، وهو المفتون بها منذ نعومة أظفاره، ها هو اليوم سيغيب عنها قسرا وكيف له أن يقوى بنيانه.

التوقف فجأة عن فعلٍ تهواه النفس وكانت تجد فيه لذة وفائدة، هو قسوة ضدها وشدة ايلام، والفادحة اذا طال وقت الحرمان، صراع تتزايد حدته، بين اجترار ارجاع الزمن للوراء والقفز قدما لتجاوز آثار المحنة.

كل مهارة تشبه نبتة زرع كلما سُقيت ورُعيت، نمت وكبرت يوما بعد يوما، جنيها قادم، بقطف عاجل أم آجل، والعكس صحيح، متى ما أُهملت فإن مصيرها

جفاف وذبول. كتاب وشعراء ورسامون وعازفون ومفكرون وعلماء اذا مر عليهم يوم من غير تدريب أو ممارسة فإنهم يصابون بثقل في الانجاز وتباطئ في أداء المهام. الكسل يقوض اللياقة ويؤخر ديناميكية التفاعل للوراء، الخمول ضار لكل مهارة وكابت لكل موهبة.

لكن أن يأتيك التوقف قسرا لظرف خارج عن ارادتك، يقتحمك اجبارا نحو الركون والسكون، هنا يصبح التقبل والتسليم بالأمر ليس منه مفر برغم القسوة والمكابدات، فالبعد عن تحميل النفس ما لاطاقة لها مطلب للعيش بسلام ووئام، والتمسك بالصبر ايمان ومفتاح فرج، البعد عن كل توبيخ، راحة بال، وحذف حرف ”لو“ تصالح مع الذات، وأي شيء يفرض فرضا يجب امتصاصه بذكاء، النظر بعين الرضا متنفس، واخذه بقبول وتعقل وتسليم دون يأس طريق نحو الشفاء، أن تخلق عالمك بروح ايجابية بعيدا عن مناوشات الإنهزامية، برسم ملامح جذابة، وباستحضار الأمجاد لكل ما هو مفرح، قمة تسامي وأطوار للإرتقاء، من هنا تتقلص مساحة البعاد وتتجدد لهفة الإنتظار لحين لحظة الخلاص.

اشراقات الأمل تكبر وتزدان، باحياء التصور تلو التصور بايقاظ مشاعر الموهبة من سبات التخذير حتى لا تصاب بالعجز والانكفاء والاستسلام.

الفتى الذهبي يحسب الشهور والأسابيع والأيام، جسده منهك يحاول التحرك بالقدر اليسير، ينظر لثقل الجبس كقيد من حديد، يتسائل متى النهوض وقوفا والمشي استنادا على حائط او عكاز، اغفاءة تأخذه بين صور الأمس الملونة وترميه يقظة لواقع حاله المقيد دون حراك، نزاع يعشه بين ماض آسر برغم المتاعب والمشاكسات وبين نظرة لمستقبل غامض لا يعرف كنهه، إرادته تلح عليه بتفاؤل وتخطي الشدة وكل الصعاب، عبر فتح نوافذ الأمنيات لعزيمة متقدة وتأمل سير لاعبين أصيبوا مثله، ثم تماثلوا للشفاء وعادوا بقوة، همة تجتاح جسده، ينفث الآهات بتجاوز شهور المحنة، يرتدي لباس التفاؤل على هيئة قوس قزح، والايحاء الذاتي جزء من رحلة الشفاء.

غادر برشلونة متوجها إلى بلاده، عاد للارجنتين، الى بوينس آيرس، عاصمة المحبين، استقبله المعجبون في المطار، يحييهم وهو مدفوع على كرسيه المتحرك، تناثرت القبلات والدموع من والدته ”تيتا' السيدة دلما افرانكو، ووالده العامل البسيط“ دون دييغو ”، ضمه الأخوة والأخوات بفرح غامر، أتاهم الابن المدلل ذي 24 عاما الذي أبصر النور بعد أربع بنات، أحاط به أخواه“ هوجو ولالو" بسواعدهما اعتزازا وافتخارا، وجد في كنف العائلة راحة بال وتعويض عن حنان افتقده طوال رحلة الاغتراب، عاد لطبخ والدته الذي نمى وتربى في حضنها الدافىء عمرا، وكل من في البيت يتسابق على راحته وخدمته فهو الذي انتشلهم من الفقر والعوز وأبعد عنهم حياة الحرمان، كبر لكن في نظر والديه الوالد المحبوب، الشقاوة لم تزل مرسومة في عينيه بشغف، قفشات الضحك تجلجل حيز البيت وفضاؤه المعطر باللمة العائلية حميمية افتقدها على مدى سنتين.

مر الوقت واستعاد روحه المعنوية من خلال جو الأسرة الآسر. وبعد ثلاثة اشهر من الراحة ادخل المستشفى ثانية، هذه المرة لنزع المسامير المثبتة في القدم، استلقى على السرير الأبيض، وعلى باب غرفة العمليات غمزة منه لعيون الكاميرا، دعوات مرسلة من أسرته والمقربين. قلق وترقب يلفان أقرب شخصين له، حبيبة قلبه «كلوديا» ووكيل أعماله «خورخي سيتيرسز بيلير»، صديق الصبا. هما المرافقان له في حله وترحاله.

فتح الكاحل مجددا ونزعت عنه الشرائح، نسج الدكتور خيوط معقمة وأحاط الجرح بلفائف قماشية، طبطب على قدم الفتى بدفع بطولي هامسا له ”يا بن بلادي أنت فخر لنا“، وكأن لسان حاله تدفعه بأمنيات معقودة لما هو آت ”غدا ستعود كما كنت، والنجاح سيكون حليفك، قدمك ستزف النصر قُدما لعموم البلاد نحو مونديال قادم، ستصنع فرحة كبرى مثل التي حققته في سماء اليابان عام 79“، تخمين وتحفيز وبعد نظر، هي دعوات مرسلة من قبل الجماهير العريضة المتتبعة لكل أخبار وضعه الصحي، من خلال الصحافة والتلفاز، متلهفة لعودته لأجواء الملاعب، فهي مؤمنة بقدرات الفتى وموهبته الفذة.

صبيحة يوم جديد صحى مبكرا، يتخطى المشي حينا ويهرول جيئة وذهابا، وعلى وقع الموسيقى يؤدي حركات احماء ممسكا بيد والدته التي تحمسه وتدفعه كل يوم نحو استكمال المزيد والمزيد من التمارين قياما وقعودا، تساعده هونا على هون، وكأنها تستعيد بدايات تعلمه المشي يوم كان طفلا، تعينه نهوضا وتشجيعا، أم تراهن على تفوق ابنها وعلى موهبته المتفردة، منحازة له وتفضله على جميع اخوته، الذين لا يجدون غضاضة في ذلك، بل يحاولون اسعاده، اخوة واخوات يناصروه حراكا ووثبا، يساندوه ببعض تمارين رياضية، معهم وحدة واحدة يشكلون فريق من ثمانية والوالدان يكملان عدد عشرة، يا صاحب رقم 10 ما أنت فاعل بكرة القدم بعد أن استطابت قدمك اليسرى.