آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 12:54 ص

بين النَّقْد وتقييم الكلمة

ليلى الزاهر *

ليس هناك من سبيل لسدّ أبواب النقدِ مادمتَ وسْط الناس وبين ظُهْرانِيهِمْ، ومهما كنتَ مُبدعا لابد أن يجدَ أحدُهم مبررًا لنقدك؛ وهذا يُعدُّ من الأمور المعتادة أو من باب وما منكم إلّا واردها؛ لأن النقد ليس وليد يومنا هذا بل له جذوره السابرة في القدم.

وَالنَّقْدُ سِمة العقلاء إذا خرج لمعنى التّقييم أوالتّمييز بين الجيد والرديء أما إذا جاء بمعنى القدح في الآراء وتسفيهها وذمها دون سبب منطقي فهو يُعدُّ تعنّتا وجناية تلحق بصاحبه.

وإذا أردنا أن نُفسّر معنى النقد في اللغة سوف نفهم معناه من خلال سبر أغوار المعاجم اللغوية فالنَّقْدُ وَالتَّنْقَادُ في لسان العرب هو: تَمْيِيزُ الدَّرَاهِمِ وَإِخْرَاجُ الزَّيْفِ مِنْهَا؛ وقد أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:

تَنْفِي يَدَاهَا الْحَصَى، فِي ڪُلِّ هَاجِرَةٍ

نَفْيَ الدَّنَانِيرِ تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ.

متى يكون النّقد قويّا؟ ومتى يكون عقيما لايتمخض عنه سوى الهمز واللمز؟

لعل أقسى وصف للنقّاد ما وضعه الكاتب واشنطن إيرفنج عندما قال في وصفهم:

«النّقاد هم قطّاع طرق أو قراصنة في جمهورية الأدب وهم أقرب شبها بالغزلان والماعز التي تعيش على التهام براعم وأوراق الشجيرات الصغيرة في الغابة فتسلبها خضرتها وتؤخر نضوجها»

أما النّقْد في تصوّري البسيط هو:

وصفٌ يخلو من المدح والذم على السواء بل يتبلور بين بسط الحقائق وإخراجها بصورة تخلو من الازدراء والانتقاص، وفرش المثالب.

والناقد إمام كلمة، له بصر ونفاذ يطلق العنان لقلمه دون قصد الإساءة أو التّشهير بالآخرين.

ولقد أردت الإشارة هنا إلى أن الكثير ممن يعتلي منصّة النّقد لابد أن تلوح في آفاقه النّزاهة، ولاتُسيّره الحيادية، فمن نصّب نفسه ناقدًا عليه أن:

  1.  يمتلك قدرة عالية تساوي قدرة المنتقَد الفكريّة، أو ربما تفوقه.
  2.  يخلو نقده من أشرعة السخرية المفضوحة أمام الجميع.
  3.  يكشف مواطن الجمال ليس تفضّلا منه بل يراه واجبا يقتضيه المقام.
  4.  يخرج من رداء التحدي إلى نور المصداقية وتفنيد الحقائق دون استهجان.

وعلى الرغم من بُعْد المسافة التي تفصل بيننا وبين الحقبة الزمنية التي ظهر فيها النقد إلا أنّ النقد الحديث يشترك أصولًا وكيفًا مع النقد القديم في أمور عديدة، فكلاهما يمتلك ملامحا تشبه الآخر غير أن النقد الأدبي القديم بدأ ذوقيّا فطريّا وتطور بدخول الناقد بوابات الثقافات المختلفة على أثر تمازج الدماء العربية بدماء الفرس والهنود واليونان وغيرهم ثمّ تحوّل إلى منهج قائم بذاته قادهُ عمالقة الفكر العربي الأصيل كالجاحظ في تبيانه.

لقد غاب النقد الذاتي الذي اتكأ على منهج الذوقية الصارمة وانقضت عهوده البائدة وسلك طرقا جديدة اتّسمت بالبحث والاطلاع ‏ فأصبح للمُنْتَقد حقوقا و﴿بَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً سورة الأحزاب «69»

وعندما عاد التاريخ من ثنايا العالم البعيد نفى الإسقاطات ورفض الأحكام السّطحيّة فلاعجب إذ كان يرى بوضوح امتزاجنا ببعض، ويرى شركاء النقد بجميع مستوياتهم الفكرية ومراحلهم العمريّة المختلفة، كلّ يتّكئ على رأيه الخاص استنبطه من مدرسته الفكرية.

عميقٌ هو النقد بعمق ثقافة صاحبه وما ثقافتنا اليوم إلا مزيج ثقافات متعددة تأطرت بالترجمة والنقل والتأليف مما أدّى للإلمام بجميع الفنون الكلامية، وجعل الناقد المُتمرس يتوقف من اطلاق الأحكام السطحيّة وأصبح نقده عميقا بعمق اطلاعه المستمر، وبعمق فكره الذي امتلأ بعنفوان الحدث منطلقا من الاستناج والتفسير معرجا بعدها على تقويم العمل الذي بين يديه.

‏إننا في زمن ما أن تضع قدميك على أعتابِ عالمِكَ حتى تُصيبك الدهشة من التّسارع الزمنيّ الذي يشهده عالمنا اليوم.

‏فلا تباعد بين الكلمات والحروف كما هو حال التّباعد بين الأجساد والأنفاس.

لقد أصبح ‏ لدينا من الفنون مايساعد على تقريب الأمصار، والتقاء الأفكار واندماجها.

وغدت الحروف متحركة تربط الإنسان بمثيله في كلّ مكان.