آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

أريج المباهلة

قال تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ - آل عمران الآية 61.

واقعة المباهلة دارت رحى أحداثها على دلالات ومضامين لابد من التدبر والتمعن فيها، فمرور الكرام عليها أو تصغير وقائعها لتبدو حادثة عادية خالية من العبر أمر غير مقبول منطقيا، إذ لا خلاف حول مدلولها على عظمة الدوحة المحمدية وما يمتلكه أفضل الخلق من مكانة عالية عند رب العالمين تقف عند مستوى أفضل الخلق على الإطلاق، ولو باهل وفد نصارى نجران لاتجهت الأمور إلى معجزة نبوية أخرى، وأحداثها بما جرت عليه تحمل معاني العظمة ورفعة الشأن لرسول الله ﷺ ومن أحضرهم معه؛ ليكونوا تجليا للمقام العالي عند المولى الجليل فبهم يستجاب الدعاء وتقضى الحاجة بإذن الله تعالى، فمن خرجوا - وقد انحصر بهم فصل الخطاب وإنزال العقاب على المكذبين - هم صفوة الخلق الذين اختارهم الله لهذا الموقف العظيم الدال على صدق النبوة وخاتميتها، فهؤلاء العصبة الشريفة امتداد النبي الأكرم ﷺ في خط الهداية والرشاد والتوجيه للخير والصلاح وتنوير العقول وتهذيب النفوس، وهذا أمر يلحظه من أحيطت بهم العناية الربانية في مشهد يدل على مكانتهم الخاصة.

لقد كانت الحادثة حالة استطلاع واستشراف واستيضاح لحقيقة خاتمية الرسل ومؤهلات صاحبها ﷺ، فسار معهم النبي الأكرم في خط الحوار المنفتح على الحقائق والبراهين ورد الدعاوي الباطلة، وما إن أفحم وفد نصارى نجران وخابت آمالهم في الانتصار في حلقة المطارحة العقائدية، إذ مع ما قدمه الرسول الأعظم من أدلة على بطلان عقيدة الثالوث وأمام تعنتهم ورفضهم للأسلوب الاستدلالي وانسداد فرص الاستهداء والاسترشاد، اتجه ﷺ بأمر إلهي إلى أسلوب يتناسب مع أهل العناد والتزمت والإصرار على الاستظلال بالباطل إلى ما يجلي الحقيقة بأبهى صورها الناصعة، إنه المباهلة التي تتجه معها الأمور نحو فضح أهل الباطل وبيان وهن معتقداتهم الضالة، وأمام هذا الموقف النبوي الحاسم بالدعوة إلى المباهلة الفاضحة لأهل الكذب والمحيقة بهم الهلاك والعقاب الإلهي، تحلق نصارى نجران حول سيدهم العاقب ليتشاوروا في الموقف المتأزم الذي يعني المضي فيه إلى النهاية الماحقة، والتراجع عنه يعني الفضيحة ووقوع الوفد في حالة التخبط والتخلي عن معتقدهم، إذ أن المباهلة نتيجتها محسومة في صف أهل الحق والبرهان بعد أن يخرج النبي ومن معه ليتوجهوا بالدعاء والتأمين على نزول العقاب على الكاذبين، وما حدث يوم المباهلة أسقط وفد نصارى نجران في أيديهم وخابوا، فهذا رسول الله ﷺ يخرج مع الوجوه المشرقة التي لو أقسمت على الله تعالى لأبر قسمها، وهذا باعتراف سيدهم العاقب، خرج رسول الله ﷺ بأفضل نساء العالمين ابنته الزهراء ، ومعهم ابناه الحسن والحسين وهم في سن الطفولة وفي ذلك كل الدلالة على علو شأنهم عند الله تعالى، والوجه الأخير علي والذي عبرت عنه الآية الكريمة بأنه نفس رسول الله ﷺ، وهذا التعبير له دلالته المختصرة على كون أمير المؤمنين يمتلك من الكمالات والفضائل كالعلم والخلق الرفيع والعبودية المطلقة لله تعالى وسائر صفات السمو والرقي كالنبي ﷺ ما عدا النبوة والأفضلية على الخلق أجمعين.

ولما أبصر وفد نصارى نجران موكب النور وتلك الأقمار المتلألئة، نكص الوفد على عقبيه وتقهقر نحو التراجع عن المباهلة بأي شكل ولو كلفهم ذلك دفع الجزية لنيل الأمان على أنفسهم والبقاء على جهالة معتقدهم.

نقف مع ذكرى واقعة المباهلة من جهتين - مع كثرة الدلالات -: فالاختيار المحمدي لهذه الشخصيات صاحبة المكانة والقرب الإلهي قد تم بناء على رسالة الوحي وليس الاختيار البشري، إذ العصمة من الهوى شاملة لجميع كلمات وتصرفات وتوجيهات الرسول الأكرم ﷺ، فهذه الصفوة هم من يقع منهم الاستجابة الإلهية لنزول العذاب على الكاذبين لا من غيرهم.

والجهة الأخرى والتي التفت لها المفسرون والعلماء هي مفهوم النفسية العلوية للنبي محمد ﷺ فيما تعنيه وتدل عليه وأوجه الشبهية فيها، فهي تشير لتلك المؤهلات والقابليات الروحية والمعرفية والتربوية والإدارية والأخلاقية، وتمثل الامتداد الطبيعي والمرجعية التي لا تخطيء بعد أكمل الكائنات ﷺ.