آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:08 ص

فلاش محلي وبوح الذاكرة

عبد العظيم شلي


يخرجون من بيوتهم خفافا ويدلفوا رحاب الأندية، محملين بحماسة الأبطال وشجاعة الفرسان، ينتعلون أحذية وألبسة رياضية ذات أرقام عربية، ينطلقون نحو الميادين الترابية، يتداولون مراكز اللعب بمصطلحات انجليزية، المنقولة من أجواء مباريات دوري كرة القدم «الليك» لموظفي شركة ارامكو Aramco، منذ نهاية الأربعينات الميلادية، الشركة، هي من أحضرت اللعبة تسلية وتنافسا وترويحا عن العمال، ودفعت بعدوى نشوء أندية وفرق المنطقة الشرقية، وكان لسان اللاعبين أثناء اللعب في كل منطقة وحارة انجليزيا صرفا.

«باك» = مدافع أو قلب دفاع، «هاف باك» = ظهير، «وينگ» = جناح، والفعل منها يونِّگ، أو يرفع الكرة أو يعرضها من جهة الجناح، «شوت» = فعل أمر بركل الكرة، والركلة منها تسمى شوتة، «باص» = تمريرة، «باكوورد» = مقص خلفي، «دبل كيك» = مقص أمامي أو ركلة مزدوجة أمامية، «هد» = ضربة رأسية،

«أوفسايد» = سارق، تسلل، «فاول» = خطأ يستوجب ركلة ثابتة، «أوت» = خارج الملعب يستوجب رمية جانبية، أو ركلة دفاع، أو ركلة ركنية، «بلنتي» ”بنالتي“ = ضربة جزاء، «كورنن» ”كورنر“ = ركلة زاوية، «سنتر» = منتصف الملعب، يسنتر = يبدأ اللاعب أحد شوطي المباراة، «هاف تيم» أو ”هاف تايم“ = شوط.

مصطلحات فهمت تطبيقا على أرضية الميدان واستوعبتها الجماهير.

كل ناد له جمهوره ومحبيه، والمقتصر في الغالب ضمن حدود البلدة أو جزء من المدينة.

ولدت أقدم أندية القطيف منذ 70 عاما وتناسلت وتشظت، وخبأت أخرى، تنوعت مسمياتها وشعارتها، بعضها حمل دلالات ومعان، مثل: النسر، النسور، وبورسعيد، النجم، والبدر، والطيران، بعضا منها أُرغم على تغيير مسماها بقرار حكومي، وتمت الاستجابة بهجر اسم واحلال آخر، ليبقى الكيان متنفسا للشباب ومنبرا ثقافيا وساحة تنافس رياضي بين أندية البلدات المتوزعة على طول المحافظة وخارج جغرافيتها، فرق ادارتها عوائل وشلة أصحاب والتفاف صداقات وتعاضد أبناء البلدة الواحدة، بذل الغالي والنفيس لرفعة اسم النادي قولا وعملا، رفاق توحدوا واصطفوا لحمى العرين وترجمة مايدور في العقول.

صور قديمة لأندية القطيف تجلى فيها اللعب فنا وحمية متوثبة، انطوت على فعاليات وانجازات متعددة، وتضمنت مشاهد مشرقة وأخرى مشاغبة، الأولى يفيض فيها الكلام فخرا واعتزازا، والثانية معتمة وكاتمة لقسوة ما حدث فيها.

صور أشجان مضنية على مدار عقدي الستينات والسبعينات من القرن المنصرم، تتباهى بأعمال تطوعية رياضية وثقافية واجتماعية، تألق فيها الطموح الشبابي بانتماء طاغٍ لفريق البلدة برفع رايته عاليا في سماء المنطقة، أندية ريفية وأخرى رسمية تجلى فيها التعاون بروح جماعية مصحوبا بمعزوفة التفوق على كل بلدة وقرية، أوسمة تدلت على الصدور، وكؤوس حملتها الأيادي وطافت بها دروب الأزقة والحواري، أطناب مدح أغاضت الفرق المنافسة، وأشداق صادحة بأصوات مجلجلة ”فريقنا قوي ماحد يغلبه، انظر وشوف، واتعلم يا غشيم، فريقنا لعبه فن وهندسة“، وتتعالى الاصوات نكاية لاغاضة الفريق المهزوم ”اويلي اويلاه... علقوا الجواتي للسنة الجاية“.

صور زاهية تحمل روح الدعابة وأخرى متباينة خدشت بأظافر الطيش، قادها حماس أعمى، أسفر عن اشتباكات صدامية بين فرق القطيف بعضها ضد بعض، نتيجة اشكالية تحكيمية من جراء اندفاعات أرجل أدت لعرقلة لاعب وتدحرجه أرضا، قوس الغضب مشدود ينطلق متى يشاء، ويرمي اشتباكا بسبب ولوج هدف حاسم أو مشكوك في صحته، وبين الفوز والخسارة تشتعل المواجهة الخشنة بالأيدي والأرجل، تفريغ شحنات زيغ باللكم والرفس والضرب «صابت جابت» والمحظوظ من يفر من هول المعركة، قسوة توزعت بين اللاعبين بعضهم ضد بعض، تشعلها الجماهير المهتاجة ضراوة وتخريبا، مصارعة حرة مفتوحة على مصراعيها بلا صافرة حكم، لأن تحكيم العقل ساعتئذ غائب، وأقحم سعف النخيل «الخضر» داخل حلبة الصراع للنيل من الأجساد، وبعد أن تنجلي الغبرة تبرق الجروح بلون أحمر ورضوض وكدمات، ووسط الأنفاس اللاهثة!، ينبري الخيرون بفض الاشتباك وترديد الصلوات ”صلوا على محمد وآل محمد“ يتفرق الجمع بعد أن أجنتهم المستديرة.

مع الأيام تهدأ الشحناء وتجبر الخواطر وتنتفي البغضاء وكأن ذاك الاشتباك مجرد سحابة صيف، يا لها من مفارقة عجيبة فبعد كل ذلك ينسى المتعاركون ما حدث، يعودون للعب مع بعضهم ثانية وعاشرة يتصافحون بود وروح متسامحة، كأن شيئا لم يكن! تماما مثل عراك الإخوة داخل الأسرة الواحدة يتناسون ما حدث ويعيشون حياتهم بشكل طبيعي.

هي مشاهد انفعالية دارت بين أخوة الأمس ولا غضاضة من ذكرها لتبيان مزاج أنفس تلك الأجيال التي لا تحمل غلا ولا حقدا تنفعل للحظات وتتألف طوال الوقت، إنها محاسن أرواح طيبة. وحسنا بأن تلك الاشتباكات الطائشة شبه منتفية عن اخوة جيل اليوم، الأكثر وعيا وتحضرا.

مشاهد رياضية قديمة اتسمت بفتوة شبابية، أخذتهم باسم الحمية المناطقية والجهوية لاشتباك كروي عابر ومعها أفرزت تنابزات وتشبيهات تهكمية، تلوكها الألسن فكاهة وتندرا، وبقيت جزء من تعليقات ما جرى شاهدا على ردح أيام الصبا.

نزاعات كروية طواها الزمن وأصبحت مجرد فلاشات ذكرى، حقيقة كان فيها المجمتع القطيفي متوحدا وبعيدا عن أي خلاف مرجعي،

والمقلدون الغيارى لم يعرفوا أي نزاع ولا حدة دينية، ذاك زمن لم نشهد فيه أي جدال حول منازل القمر أو تباشير مطلع هلال كل شهر، سوى الصراع الايدولوجي بين «القومي، والبعثي، والشيوعي»، لكنه محصور في النخب، حراك ثوري أدى لاشتباك كلامي في المقاهي وتحت ظلال النخيل، ووصل الى زفة المعاريس، يخفت عند تشييع الأموات، شبيبة تبنوا المد القومي ردحا من الزمن وعند وقوع النكسة سقط القناع، ثم تكسرت آمال أخرى بعدما سقطت الراية الحمراء، وتلاشى حلم البروليتاريا، حلت الإنكسارات وجاء زمن الخيبات والتشظي بانقسامات مقيتة.

زمن حاضر أفرز صراعا طبقيا وطائفيا، وبرز على السطح الخلاف المرجعي المنتفي تماما عن ذهنية المجتمع، يشعله بعض المقلدين باسم الحمية الدينية الطاغية دون تعقل وتبصر.

المتربصون لأي خلاف يصطادون في الماء العكر لتشويه وتحقير عقائد الجميع ويقودون التشويش بين الجانبين، الفطنين يدركون ذلك.

حينما حل الوباء كثر اللمز والهمز بادعاءات باطلة للنيل من احدى مكونات المجتمع، ساد الدفاع اثر الهجوم الظالم، لكن ولله الحمد تبخرت تلك الظنون الجاهلة وانجلت الحقيقة.

ما أجمل أن نرفع صوت التسامح وافشاء السلام من القلب في كل عروج الحياة ونتقبل روح الاختلاف بعيدا عن حساسيات الدين والطائفة والمذهب لتعلو راية الوطن خفاقة ويعش الجميع في سلم ووئام، ما أجمل أن يسود الحب بين بني الانسان في كل مكان.

دعوة قلبية من أبناء الخط بمناسبة حلول العام الهجري الجديد وانطلاقة أيام عاشوراء الداعية للرحمة والسلام.